تطورات سريعة تشهدها الساحة الأوكرانية في المرحلة الراهنة، في أعقاب العملية العسكرية، التي أطلقتها روسيا الخميس الماضى، ربما تعكس تغييرات عميقة وكبيرة، سبق وأن تناولناها، سواء من حيث التحول الصريح نحو "التعددية" القطبية، مع قدرة موسكو على فرض كلمتها على العالم، في القلب منه القوى الحاكمة للعالم منذ ثلاثة عقود من الزمان، بينما امتد التغيير إلى المفاهيم الدولية السائدة، وتحولها من مجرد مصطلحات "سيئة" السمعة، إلى ما يمكننا تسميته بـ"فرض عين" على العالم، وأبرزها مفهوم الطوارئ، الذى أصبح يسود العالم في الآونة الأخيرة، إلى الحد الذى بات يحمل فيه أبعادا تتجاوز البعد الأمني، على الرغم من الانتقادات التي كالتها دول المعسكر الغربي لهذا المفهوم لسنوات طويلة، بهدف التضييق على الدول "المارقة"، في إطار التشدق بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها.
إلا أن الأمور على ما يبدو باتت تتجاوز البعد النظري، إلى الواقع العملي، تزامنا مع خطوات عملية بدأت بتفاقم الصراع المتفاقم أصلا إثر دائرته الجغرافية التي تتجاوز في حقيقتها "ثنائية" المعادلة الروسية الأوكرانية، وإنما تمتد إلى صراع تاريخى بين الشرق والغرب، وبالتالي فإن تداعياته المتوقعة لن تقل بأى حال من الأحوال عن تلك الدائرة، والتي تمتد من الولايات المتحدة إلى أوروبا الغربية، وبينهما مناطق العالم الأخرى، التي سوف تتأثر بطبيعة الحال، إن لم يكن جراء شظايا المدافع، فسوف يكون الوضع الاقتصادي مؤلم للغاية مع حالة من التضخم المتوقعة نتيجة ارتفاع أسعار الغاز، وهو ما سوف يترك نتائجه الكبيرة على العالم بأسره، فيما يتعلق بأسعار السلع الغذائية.
ولكن ربما نبقى في حاجة للعودة إلى المفاهيم وترجمتها على أرض الواقع، مع ظهور مصطلحات تبدو غريبة على أذن الغرب، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، أبرزها "المقاومة"، في إشارة إلى التحرك نحو تعميم الحرب، عبر إشراك المواطنين الأوكرانيين وتسليحهم، في مواجهة القوات الروسية، بينما ظهرت دعوات جديدة تماما على المشهد الأوروبي، أبرزها فتح الباب أمام مواطني القارة العجوز، لـ"التطوع" في الحرب الدائرة على الساحة في كييف، وبالطبع تسليحهم، حتى يتمكنوا من المواجهة، لتصبح أوكرانيا، ليست مجرد "نقطة تحول" في النظام الدولي الراهن، وإنما بمثابة "فخ" لأوروبا الغربية، خاصة إذا ما تجاوزت نظرتنا للمشهد القارى الأوضاع الراهنة، لتمتد إلى ما قبل ذلك بسنوات.
الدعوة إلى تجنيد المواطنين الأوروبيين من "المرتزقة"، في معركة عسكرية نظامية دائرة، تبدو، بالنظرة المجردة، محاولة لتعويض غياب حلف شمال الأطلسى، والذى أدار ظهره لأوكرانيا صراحة، في مواجهتها مع روسيا، وهو الأمر الذى أثار امتعاض كييف بصورة كبيرة، وربما ساهم إلى حد كبير في إعادة النظر من قبل حلفاء الغرب بصورة عامة، إلى إعادة تقييم سياساتهم القائمة على الاعتماد المطلق على "المعسكر الغربي"، وهو ما يعنى أن الميليشيات أصبحت بمثابة بديلا "شرعيا" لقوات التحالف الذى آثر النأى بنفسه عن ويلات المعركة التي لا يدرك أحد مداها سواء زمنيا أو جغرافيا، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لتوجه يبدو خطيرا في إطار تداعيات مستقبلية قد تحملها هذه الخطوة وقد تضعها على طريق الخطر.
التوجه الأوكراني بـ"تجنيد المرتزقة" ربما نال "مباركة" واشنطن، في إطار التنسيق المستمر بين الجانبين من ناحية، بالإضافة إلى كونه يمثل خدمة جليلة لرؤية تتبناها الولايات المتحدة منذ سنوات، تجلت بوادرها مع تهديدات الرئيس السابق دونالد ترامب بالانسحاب من التحالف، إلى الحد الذى دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الحديث عن "الموت الإكلينكي" للناتو، والحاجة لتشكيل ما أسماه بـ"الجيش الأوروبي الموحد"، ثم تواصلت مع وصول خليفته جو بايدن إلى عرش البيت الأبيض، بتخفيض أعداد القوات في أوروبا الغربية، لصالح مناطق أخرى في إطار صراع أخر مع الصين، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لرغبة واشنطن في التنصل من التزامها بحماية حلفائها في أوروبا الغربية.
المباركة الأمريكية لهذا الاتجاه تمثل امتدادا مهما لسياسات الماضى القريب، والتي تجلت في أبهى صورها في عهد ترامب، عبر استهداف القارة العجوز على مسارين أولهما جمعيا، من خلال السعي الصريح نحو تفكيك الاتحاد الأوروبى، والدعم الأمريكي الكبير لخروج بريطانيا منه، لتكون بمثابة "المسمار الأول" في نعش أوروبا الموحدة، بينما كان المسار الأخر عبر تقديم أقوى صور الدعم لتيارات اليمين المتطرف في مختلف دول القارة، لتكون بمثابة "أبواق" جديدة للخطاب الشعبوى الذى طالما تبناه الرئيس الأمريكي السابق، وهو الأمر الذى ساهم في حالة كبيرة من عدم الاستقرار شهدتها مختلف العواصم الأوروبية، مع نهاية العقد الثاني من الألفية، إثر احتجاجات رافضة لسياسات الحدود المفتوحة، والهجرة، في ظل تردى أوضاع المواطنين الأصليين، تزامنا مع ظهور حركات، على غرار "السترات الصفراء"، والتي اتجهت نحو استخدام العنف، سواء في مواجهة السلطات، أو حتى تجاه الممتلكات العامة والخاصة، لتشكل نواة مهمة، لـ"ميليشيا" مستقبلية، إلا أن ظهور الوباء ساهم في حالة أشبه بـ"الهدنة"، لعدة أشهر، لتعود الأمور بعدها إلى الميادين احتجاجا على القيود المفروضة
ولعل تجنيد المرتزقة في القارة العجوز، يمثل خطوة جديدة في زرع بذور الفوضى، تحمل في ظاهرها هدف "المقاومة" ضد "الغزو"، بحسب رؤيتهم، بينما تبقى أهدافها المستقبلية أبعد بكثير من مجرد معركة ضد موسكو، في ظل احتمالات كبيرة لظهور حركات مسلحة في المستقبل القريب، سوف تؤهلها قوتها العسكرية، بحكم التدريب والتأهيل الذى ستتلقاه، على الأراضى الأوكرانية لمحاربة جيش نظامي بحجم الجيش الروسي، نحو الطموح للوصول إلى مقاعد السلطة في بلدانهم، مما يضع أوروبا كلها في مأزق، بينما تتحول أوكرانيا إلى "مفرخة" الإرهاب، التي تمثل تهديدا صريحا لمحيطيها الإقليمى والقارى.