أبلغ الإعلامى محمد عروق، رئيس إذاعة صوت العرب، المذيع عبدالوهاب قتاية، فى لقائهما، بأنه سيسافر غدا «5 فبراير، مثل هذا اليوم، 1971»، بصحبة الشاعر الفلسطينى محمود درويش إلى الأقصر وأسوان، وكشف «عروق» لقتاية أن «درويش» وصل إلى القاهرة من موسكو، وسيبقى معنا، لكننا لم نعلن عن وصوله إلا بعد فترة راحة، ولهذا رتبنا له رحلة إلى الأقصر وأسوان، وسترافقه أنت..استمرت الرحلة أسبوعًا، وكان مع «درويش» و«قتاية» المذيع «فؤاد فهمى» من صوت العرب، والكاتب الصحفى عبدالملك خليل مراسل الأهرام فى موسكو الذى اصطحب «درويش» من العاصمة الروسية إلى القاهرة، ويتذكر «قتاية» ما جرى فيها فى مقاله «سر الأسبوع الأول لمحمود درويش فى مصر»، بجريدة «العربى الأسبوعية الناصرية المتوقفة»، عدد 31 أغسطس 2008.. «راجع، ذات يوم، 4 فبراير 2022».
يتذكر «قتاية» ما حدث فى زيارة بعض معابد الأقصر وآثارها، قائلا: «فى أحد الأيام أخذنا عبر النيل إلى الضفة الغربية حيث المقابر العجيبة المذهلة فى وادى الملوك، وعندما وصلنا إلى مدخل مقبرة «توت عنخ آمون» نظر محمود إلى السلالم الضيقة النازلة فى جوف الأرض، ثم قال: إنه متعب وطلب إعفاءه من النزول إلى المقبرة، وحاولت إغراءه برقة، فاعتذر فأتيناه بمقعد يستريح عليه حتى نعود من زيارة المقبرة، لأننى لم أكن لأضيع فرصة زيارتها تلك، واعترف أن عزوفه عن زيارة المقبرة أصابنى بدهشة حرصت على ألا تبدو مظاهرها، لكنها ظلت علامة استفهام محيرة».
يطرح «قتاية» سؤالين حول اعتذار «درويش»، قائلا: «هل كان عزوفه تعبيرا عن لا مبالاة بقيمة تلك الآثار التى يأتيها الناس من كل جنس عبر القارات.. هل هو عدم ارتياح للسلالم والأماكن الضيقة تحت الأرض كزنزانات السجون؟.. يقدم «قتاية» إجابته الخاصة قائلا: «الحق أننى حبا وتعاطفا، رجحت أن يكون السبب أنه كان مرهقا جسديا ونفسيا، ومثقل الروح بهموم الرحلة الفارقة التى يكابد هواجسها.. كان بلا شك ممزق النفس بين فراق أمه وأخوته وأهله ورفاقه وأماكن ذكريات عمره فى وطنه، ومستقبل مهول يفتقد فيه اليقين، ولا يضمن فيه إلا الغربة، كان أجلى مظاهر ذلك التمزق ميله إلى الصمت والتأمل، وبدورى كنت حريصًا على احترام صمته وتأمله، فلم أحاول التطرق فى أحاديثنا إلى الموضوعات الشائكة التى كانت تطرح نفسها بإلحاح على فكرى، مثل أحوال رفاقه فى الوطن المحتل، وقرار تركه الوطن وما سيثيره من مواقف مختلفة فى الوطن، وفى الأوساط الثقافية والسياسية العربية، وهكذا خلت الرحلة من كل ما يحتمل أن ينكأ جراحه ويزيد توتره النفسى، كان بحاجة إلى أن يتأمل فى سكينة ليصل بنفسه وحده إلى شاطئ فيه شىء من التوافق واليقين».
يكشف «قتاية» عما جرى فى أسوان، قائلا: «فى أسوان نزلنا فى فندق كتراكت التاريخى القديم، ورتبت لنا زيارات لبعض المعالم الدالة، وفى مقدمتها «السد العالى»، الذى ذكره درويش فى قصيدته عن عبدالناصر، وهناك همست له: لو أنه كان لا يزال حيا، لاستقبلك بالتأكيد كما استقبل الشاعرة فدوى طوقان، فكان جوابه نظرة تقطر أسى عميقا».. يضيف قتاية: «من ذكريات أسوان أيضًا أن دعينا- خارج إطار البرنامج- إلى حفل غذاء، فلما دخلنا القاعة فوجئنا بوجود شعراوى جمعة وزير الداخلية، وكان فى زيارة إلى أسوان، وقام من مقعده حول المائدة ليرحب بشاعر المقاومة ترحيبًا حارًا وحانيًا».
يتوقف «قتاية» عند أهم ذكريات أسوان وأعمقها قائلا: «أعمق ذكريات أسوان فى النفس، كانت زيارة مدرسة ابتدائية متواضعة فى أحد أطراف المدينة، ففى أحد الفصول استقبلنا معلم الفصل بحفاوة قائلا لتلاميذه الصغار: قيام.. فقاموا بنشاط، فأعطى لهم إشارة ابتداء، فإذا بهم ينشدون فى حرارة وتوافق كأنهم فريق كورال بعضا من أشعار المقاومة، مبتدئين بقصيدة درويش: «وطنى، يعلمنى حديد سلاسلى/عنف النسور، ورقة المتفائل/ ما كنت أعرف أن تحت جلودنا/ ميلاد عاصفة وعرس جداول».
يؤكد «قتاية»: «كانت مفاجأة مثيرة ومشهدا دالا مؤثرا، أن يزور «درويش» فى أيامه الأولى فى مصر، مدرسة ابتدائية رقيقة الحال، فى أقصى جنوب الوادى، فيجد أطفالها البسطاء يحفظون أشعاره عن ظهر قلب، وينشدونها بحماس وحرارة.. كان ذلك فيما أعتقد أعظم تحية وأصدق تقدير له فى مستهل رحلة اغترابه الطويل الأليم، وأظنه استمد من ذلك المشهد التلقائى الجليل شيئا من اليقين الذى يبحث عنه».
يضيف قتاية: «مرت أيام الأسبوع سريعة، وأعتقد أنها منحته بعض السكينة، وكانت فرصة للتأمل والتفكير فى بيانه الذى ألقاه فى المؤتمر الصحفى الذى عقد فى اليوم التالى لعودتنا إلى القاهرة».. يعلق: «صفحة ذلك الأسبوع الجميل الذى عشناه معا فى الأقصر وأسوان طويت بين جوانحنا، لا يعلم بها أحد آخر ولا نتكلم عنها، ولكن صرنا كلما التقينا هنا أوهناك نذكرها بالإشارة والكلمات الموجزة بمحبة واعتزاز».