فى مشهد ينعم بالأصالة والبساطة والرضا، بطله رجل خمسينى يعمل بخفة ونشاط، بروح راقية مبهجة تعانق الحياة، وملامح ريفية مشرقة تتغنى بالحب والشقاء، يجلس فى رحاب منزله بقرية البطرة التابعة لمدينة طلخا بمحافظة الدقهلية، منسجما وحالما بأبنائه، وهو يغزل بأنامله الساحرة التى ملأت تجاعيدها الجروح، أعواد البوص بأربطة سوداء على لوح خشبي، صانعا منها "سدد الغاب" التى تستخدم كأسقف وأبواب لبيوت غير القادرين، أو كأسوار لحظائر المواشي؛ بحثا عن الرزق الحلال، وستر الفقراء.
"سدد الغاب".. موروث تاريخى أصيل، وتاريخ طويل من الكفاح والعمل لم تنقطع جذوره لحرفة يدوية شارفت على الإندثار، استطاع أيمن محمد، أن يحافظ عليه ويحييه بمهاراته وإبداعه الفنى الذى اكتسبه من كبار صناعها فى قريته منذ 15 عاما، حيث عكف على مراقبتهم وهم يرصون أعواد البوص جنبا إلى جنب بإتقان شديد، لتتشابك مع بعضها البعض بأربطة سوداء، تزيد من متانتها وقوتها، ومع التجربة والمحاولة مرارا وتكرارا تعلم أصول الحرفة واحترف صناعتها وأصبح من رواد المهنة فى الدقهلية، بجانب عمله كعامل يومية فى الأراضى الزراعية.
"سدد الغاب ستر للفقراء وغير القادرين".. هكذا بدأ أيمن محمد، صاحب الـ55 عاما، صانع "سدد الغاب" حديثه لـ"اليوم السابع"، فقال إنه عمل فى صناعة "سدد الغاب" منذ سنوات طويلة؛ ليوفر حياة كريمة لأبنائه الأربعة، حيث يمكث ساعات طويلة أمام منزله الذى خصص زاوية منه لوضع أدوات عمله من حامل خشبى يشد عليه "سدة الغاب"، وأعواد البوص، وأربطة الشد السوداء، ليغزل بيديه السدد التى يشتريها منه الفقراء وغير القادرين لصب بيوتهم؛ لتحميهم من حرارة الصيف وبرودة وأمطار الشتاء والحشرات والقوارض، مشيرا إلى أن صناعة "سدد الغاب" تراث قديم وحرفة عظيمة تستر الفقراء عوضا عن الحديد الصلب والأسمنت.
"حرفة ممتعة فيها خير".. أضاف عم أيمن، أن صناعة سدد الغاب هى قبلة الفقراء، مهنة ممتعة ومسلية رغم مشقتها، فهى عملية طويلة وصعبة ترهق الروح والجسد، بداية من تجميع نوع جيد من أعواد البوص البلدى القادر على مقاومة الظروف البيئية من حرارة وأمطار، والتحمل لأطول فترة ممكنة، وتنظيف أعواد البوص لساعات طويلة من الشوائب والأشواك وتسويتها وتنعيمها باستخدام الشقرف، متحملا الجروح التى تملأ أصابعه بسبب الأشواك، فبالرغم من صعوبتها إلا أنه يستمتع بالعمل فيها كونها فن يستغل فيه مهاراته ووقت فراغه ويفرغ من خلاله طاقته فى شيء مفيد، ويفرح به الفقراء وغير القادرين على شراء الحديد والأسمنت بأسعارهم المرتفعة، مشيرا إلى أن المهنة هجرها كثيرون؛ لمشقتها وانخفاض دخلها ومكسبها.
واستطرد أنه يقوم بصناعة سدد البوص، بعد أن يقوم بقياس مساحة المنزل المطلوب صبه بـ"الغاب"، مشيرا إلى أن الغرفة الواحدة لو أن مساحتها أربعة أمتار طول وأربعة أمتار عرض، فذلك يعنى أنها ستحتاج لـ4 قطع من سدد الغاب مساحة الواحدة منهم 4 أمتار، أى طولها مترين وعرضها مترين، مع تزويد 10 سنتيمترات فى الطول ومثلهم فى العرض، لتغطى السدد مساحة الأسقف بشكل كاف، مضيفا أن نوعية البوص الذى يستخدم فى صناعة السدد هو البوص البلدى والذى يعد أفضل وأجود أنواع البوص على الإطلاق؛ لقدرته على تحمل صب أسمنت أعلاه، والبقاء لسنوات طويلة، فضلا عن قدرته الفائقة على تطرية وتهدئة الجو صيفا، وامتصاص أشعة الشمس وتدفئة البيوت شتاءا، مقارنة بالصاج الذى يستخدمه البعض فى صب بيوتهم ويعجز عن توفير التدفئة والبرودة لهم مع تعاقب الفصول، مؤكدا أن سدد البوص هو قبلة الفقراء، فيوفر لهم الحماية والعيش الآمن دون أن يكلفهم ذلك ماديا، حيث أن قطعة السدة الواحدة يتم صناعتها بطول 4 أمتار وتباع بـ60 جنيه.
وأوضح أن صناعة "سدد الخوص" غية تحتاج للمهارة والصبر وخفة اليد، حيث تظهر مهارة الصانع، بداية من اختيار نوعية جيدة من البوص وهو البوص البلدى المتين القادر على مقاومة الظروف البيئية المحيطة والتحمل والبقاء لأطول فترة ممكنة، ثم تقشير أعواد البوص بالشقرف وتنظيفها وتنعيمها من الشوائب، حتى لا يتسبب وجودها فى فصل الأربطة عن البوص أثناء عملية الربط، ومن ثم عقد وتثبيت ورص الأعواد بجانب بعضها البعض على لوح خشبى باستخدام الحبال، التى يتم سحبها وشدها بقوة حتى تتماسك أعواد البوص مع بعضها البعض بدون وجود فواصل، لتزداد متانة وقوة قطعة السدة.
مشيرا إلى أن الناس يقومون بتزويد متانة سدد البوص بعد وضعها فى أسقف بيوتهم بطريقتين، الطريقة الأولى هى وضع كمية بسيطة من قش الأرز أعلى سدة البرص، ومن ثم وضع قطعة كبيرة من البلاستيك تساعد على منع مرور مياه الأمطار للبيت شتاءا، وبعدها يتم وضع كمية بسيطة من الأسمنت، أما الطريقة الثانية فيتم الإعتماد فيها على وضع سدد الغاب وأعلاها كمية من قش الأرز، الذى تعتليه قطعة كبيرة من البلاستيك وعليها كمية أخرى من قش الأرز دون إضافة الأسمنت.
ولفت إلى أن المهنة تغيرت كثيرا عن الماضي، فقديما كانت صناعتها مزدهرة ومربحة، حيث كانت جميع البيوت فى قرى الريف مصنوعة من الطوب اللبن، وبالتالى كانت سدد الغاب هى التى تعتمد فى صب البيوت لدى جميع الأهالي، أما الآن فقد تغير الوضع بعد تطور الحياة وظهور الحديد والأسمنت، فلم يعد أحد يعتمد على سدد الغاب فى صب البيوت سوى قلة بسيطة من غير القادرين فى الأرياف والقرى الفقيرة، وأصحاب المزارع والأراضى والزرائب والعشش، مشيرا إلى أن أسعار السدد ازدادت مع مرور السنين، فمنذ بداية عمله فى الصناعة كان يبيع قطعة السدة الواحدة بـ6 جنيهات، والآن يبيعها بـ60 جنيه، بعد زيادة أسعار أعواد البوص والأربطة التى تستخدم فى تثبيتها، فضلا عن زيادة متطلبات الحياة لأسرته وأبنائه.
"الرزق يحب الخفية.. ولازم نتعب عشان أكل العيش"، هكذا علق عم أيمن، بعفة وابتسامة متواضعة على اعتماده على سدد البوص كمصدر دخل أساسى لأسرته، فقال إنه يعمل جاهدا بكل إصرار وعزم على توفير كل متطلبات أسرته من عمله فى صناعة السدد، وكفاحه كعامل يومية فى الأراضى الزراعية؛ ليوفر حياة كريمة لأبنائه الأربعة ويتمكن من تأمين مستقبلهم وتزويجهم، مشيرا إلى أن الله تعالى أعانه على تزويج أكبر بناته، وبكفاحه وعمله لآخر نفس سيعينه على تحقيق أمنيته الوحيدة فى الحياة وهى تزويج ابنه وبناته الأخريات.
أيمن محمد أثناء تثبيت أعواد البوص بالأربطة السوداء
أيمن محمد صانع سدد البوص
أيمن محمد
تجهيز أعواد البوص البلدي لصناعة السدد
تنظيف أعواد البوص من الأشواك باستخدام الشقرف
صانع سدد البوص
صناعة سدد البوص بقرية البطرة بمحافظة الدقهلية
صناعة سدد البوص في الدقهلية
صناعة سدد البوص يدويا
صناعة سدد البوص
مراحل صناعة سدد البوص
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة