«سأسافر غدا إلى القنطرة ومنها سأقوم برحلة إلى فلسطين، وأرجو أن تسهم دعايتى الشخصية فى زيادة عدد العمال، وسأقوم فى أثناء طوافى بهذه البلاد بتوزيع إعلانات طبعتها فى القاهرة باللغة الفرنسية تدعو الأهلين إلى الاشتراك فى عمل جاء ذكره فى الإنجيل والقرآن، وأرجو أن يستبدل هؤلاء الرجال بحياتهم الحافلة بالآلام والبؤس حياة شريفة وكسبا مضمونا».
هكذا قال «ديليسبس» فى خطابه إلى «الدوق البوفرا» بفرنسا، يوم 19 مارس، مثل هذا اليوم، 1861، مؤكدا على اعتزامه السفر إلى فلسطين ومنها إلى سوريا لاستقدام عمال منها لحفر قناة السويس، وفقا للدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى فى كتابه «السخرة فى حفر قناة السويس»، وينشر فيه نص هذا الخطاب، ويكشف من خلاله أن حفر القناة ساهم فيه عمال من بلاد الشام، أضف إلى ذلك فإن ديليسبس كان يلجأ إلى سلاح الدين لتحفيز العمال للموافقة على المشاركة فى عمليات الحفر.
يوضح الشناوى، أن «ديليسبس» بدأ التفكير فى ذلك بعد المذابح بين المسلمين والمسيحيين منتصف 1860، وبدأت بين الدروز والموارنة ثم اتسع نطاقها، وشارك فيها قرابة عشرين ألفا، وهام الأهالى فى الجبال، ولجأ عدد كبير منهم إلى الإسكندرية وقبرص واليونان وتركيا، وأراد ديليسبس استثمار هذه المأساة، فعين مندوبا له فى بيروت لجمع عمال مسيحيين من سوريا سرا، ونصح مندوبه فى خطاب له يوم 23 يناير 1861 قائلا: «عليكم أن تعملوا بلباقة فى طى الكتمان فى سبيل حضورهم، ويجب ألا تتفاوضوا مع الزعماء أو الرؤساء أوالعائلات التى لها بأس وسيطرة، فهؤلاء جميعا يعملون على استغلال العمال، عليكم أن تتجهوا إلى العمال مباشرة».
لم تنجح خطة ديليسبس بالقدر الذى يريده، فقرر السفر بنفسه للدعاية، وبدأ رحلته من القنطرة فى 21 مارس 1861.. يؤكد «الشناوى» أنه بدأها ومعه نفر من أصحابه، وكان يستقل عربة خاصة تجرها أربعة من الجمال، ويتبعها عدد آخر، وبلغ العريش فى 24 مارس وقضى ليلته فى ضيافة حاكم العريش، وتحدث إليه فى شأن تذليل الصعاب التى قد يلقاها العمال السوريون عند اجتيازهم الحدود المصرية، وقرر تعيين مندوب للشركة يقيم فى العريش لتقديم المعونة إلى أولئك العمال، وأستأنف ديليسبس وصحبه السفر فى صبيحة اليوم الثانى بعد أن أرسل حاكم العريش معهم رجلا من الأدلاء.
يؤكد الشناوى، أن ديليسبس أجاد الدعاية، فكان إذا مر وهو فى طريقه ببعض الأعراب الضاربين فى الصحراء توقف عن المسير وقرأهم السلام باللغة العربية، وبذلك يستحوذ على قلوبهم، فيدعونه إلى تناول الشاى أوالقهوة داخل الخيمة، ثم يوزع عليهم إعلانه المطبوع باللغة العربية، وكان قائدو الجمال المرافقون له يتولون الشرح، ويعددون لهم المزايا التى تعود عليهم لو أقبلوا على العمل فى ساحات حفر القناة، حيث الرزق المضمون والحياة المستقرة، وبلغ غزة فى 25 مارس 1861، ثم بيت المقدس فى 27 منه، وأقام فيها خمسة أيام شهد فيها حفلات الفصح مع عدد كبير من الضباط الفرنسيين فى جيش الاحتلال الفرنسى لسوريا.
يضيف «الشناوى» فى شرحه لتفاصيل هذه الرحلة: «عين ديليسبس مندوبين للشركة فى غزة ويافا وبيت المقدس يتولون جمع العمال والإشراف على سفرهم، وكان مندوب الشركة فى العريش يستقبل العمال ويوجههم إلى القنطرة، ويكون فى انتظارهم مندوب آخر يوزعهم على ساحات الحفر».. يذكر «الشناوى» أن قبول العمال للعمل فى الشركة كان يتم بمطلق الحرية على أساس اتفاق حر بين الشركة والأهالى دون ضغط من السلطات الحكومية عليهم، فإذا ما قبل العامل دفعت له الشركة قبل رحيله مبلغا من المال لينظم أمر أسرته كما تتكفل بنفقات سفره إلى مصر، وكان شيخ القرية يضمن العامل إذا أخل بالاتفاق أوعدل عن السفر، وكانت أقل مدة يقضيها العامل السورى فى ساحات الحفر ويسمح له بعدها بالعودة إلى وطنه إذا شاء شهرا ونصف الشهر، فإذا أراد متابعة العمل فله أن يجدد الاتفاق فترة أخرى، وله أيضًا أن يبعث فى طلب أسرته إذا شاء.
اقتصرت دعاية الشركة فى سوريا أول الأمر على المسيحيين دون المسلمين.. يذكر الشناوى: «توقعت الشركة أن تستجيب لها جموع حاشدة من العمال المسيحيين، ولكن لم يفد عدد كبير منهم، فرأت أن تعمم دعايتها فى أوساط المسلمين والمسيحيين على السواء، واستعانت بالشخصيات الدينية الإسلامية هناك لحض المسلمين على العمل فى حفر القناة، واستصدرت من الشيخ عثمان محمد، شيخ مسجد عمر ببيت المقدس نداء باللغة العربية، بدأه بقوله: «أيها الناس، تعالوا وابحثوا عن ديليسبس وكونوا له السواعد القوية، وأمسكوا بالفؤوس، واعملوا طوع أمره».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة