كان محمد على باشا يعطى زراعة القطن عناية كبيرة، لكن كانت هناك مشكلة جوهرية تقابله، وهى أن القطن زراعة صيفية، وأن نظام الرى المتبع فى الوجهين القبلى والبحرى وفى مصر الوسطى يكاد يكون واحدا تقريبا، وهو رى الحياض الذى يعتمد على مياه الفيضان، وهو نظام لا يصلح إلا للزراعات الشتوية، كما أنه لا يمكن زرع الأرض بمقتضاه إلا مرة واحدة فى السنة، فضلا عن أنه لا يصلح للزراعات الصيفية كالقطن وقصب السكر والأرز، مما ألجأ المزارعين إلى استخدام السواقى، وهو عمل شاق يحتاج إلى جهد مائة ألف رجل على الأقل يستخدمون حوالى خمسين ومائة ألف ثور، هذا إلى جانب أن الأفدنة التى يمكن ريها بهذه الوسيلة لم تزد على ربع مليون فدان، أى ما يقرب من 1 على 12 من الأراضى الصالحة للزراعة، وفقا للمؤرخ الدكتور محمد فؤاد شكرى، وعبدالمقصود العنانى، وسيد محمد خليل، فى الجزء الأول من كتاب «بناء دولة مصر محمد على».
يذكر «شكرى» أن الباشا حاول إصلاح نظام الرى فى أقاليم الدلتا فأكثر من حفر القنوات وإقامة الآلات الرافعة لكنها لم تكن كافية، فقرر إحداث تغيير جوهرى بالانتقال من «رى الحياض» إلى «الرى الدائم» طوال السنة، وذلك بإنشاء القناطر ذات العيون والأهوسة، كما أراد أن ينشئ قناطر كبرى تضبط مياه النهر فى رى أراضى الدلتا وقت انخفاض النيل، ومن هنا بدأ الطريق إلى إنشاء مشروع القناطر الخيرية، «ويعد أكبر مشروعات الرى فى العالم وقتئذ»، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على».
اقترح الفرنسى «لينان» كبير مهندسى محمد على إنشاء تلك القناطر على فرعى النيل ودمياط ورشيد قريبًا من رأس الدلتا، لتنظيم توزيع المياه بين الفرعين فى الصيف وتنظيم سيرها وقت الفيضان.. يؤكد «شكرى»: «وافق الباشا، وطلب إلى «لينان» تقدير النفقات وحاجات العمل، وكان من المنتظر أن يستصلح حوالى مائتى ألف أوثلاثمائة ألف فدان خلف القناطر، وفى 22 مايو 1834 بدأ العمل رسميا فى إقامة القناطر، غير أنه سرعان ما تعرض المشروع للنقد، فقرر محمد على عرض المسألة على لجنة من المهندسين وموظفى «الأعمال العمومية» تتألف من 17 عضوا، وعقدت اجتماعها 10 يونيو 1838 وأقرت المشروع، لكن محمد على رفض المضى فيه، ونقل المواد التى جمعت عند القناطر للانتفاع بها فى أعمال أخرى».
ظل أمر القناطر مهملا حتى قدم إلى مصر المهندس الفرنسى «موجيل» لإنشاء حوض بميناء الإسكندرية لترميم السفن، ووفقا لشكرى: «لما علم «موجيل» بمشروع «لينان» اقترح على الباشا مشروعا جديدا للقناطر يشمل استحكامات كان محمد على يرغب وقتئذ فى إقامتها عند التقاء فرعى النيل حتى يجعل من هذا الوضع مركزا حربيا صالحا للدفاع عن مصر، فوافق الباشا على مشروع «موجيل»، وطلب إلى «لينان» أن يقدم إليه كل معلومات ووثائق ورسوم تساعده فى إعداد مشروعه الجديد، وفرغ «موجيل» من مشروعه فى يناير 1843، وبدأت الأعمال بكل همة فى بناء القناطر، ولكن العمل توقف، ثم استؤنف، وأخذ يتوقف خاصة فى أوقات الفيضان ثم يستأنف، وأخيرا احتفل محمد على بوضع حجر الأساس فى 9 إبريل، مثل هذا اليوم، 1847، وكان يشترك مع «موجيل» فى كل أعمال القناطر المهندسان المصريان، مصطفى بهجت، ومحمد مظهر، وفى منتصف يونيو 1847 أمر الباشا ابنه «إبراهيم» بالقيام إلى القناطر الخيرية والتروى مع «موجيك بك» فى الوسائط المؤثرة لتشهيل وإنهاء الأشغال».
يؤكد «شكرى»: «فى 19 مارس 1847 قررت الجمعية العمومية فتح ثلاث ترع رياحات من ثلاث جهات، جوانب القناطر الخيرية فى البحيرة والمنوفية والشرقية ليصل ما تحجزه القناطر من مياه إلى كل ناحية، وفى 31 مايو 1847 بدأت أعمال الحفر فى الترع الثلاث».. يذكر «الرافعى»: «استمر العمل فى المشروع ثم اعتراه البطء والتراخى لما أصاب الحكومة من الفتور فى أخريات أيام محمد على، ثم توقف العمل بعد وفاته أثناء ولاية «عباس الأول» بحجة أن حالة الخزانة لا تسمح، وارتأى عباس توفيرا للنفقات أن تؤخذ الأحجار اللازمة للبناء من الهرم الكبير، ولكن «لينان» أقنعه بفكرة أن اقتلاع الأحجار من الهرم يقتضى من النفقات ما يزيد عن نفقات اقتلاعها من المحاجر».
يذكر «شكرى» فى 1853 أوحى إلى «موجيل» بالاستقالة فخلفه «مظهر بك»، ثم تعطل العمل إلى أن جاء سعيد باشا، فاستؤنف من جديد حتى تم إنشاء القناطر نهائيا عام 1861.. يضيف شكرى: «كان لإقامة القناطر الخيرية والعناية بغيرها من وسائل الرى وشؤون الزراعة، آثار ظهرت فى زيادة مساحة الأراضى المزروعة من مليونى فدان فى 1821 إلى 3 ملايين و865 ألف فدان فى 1840، كما ظهرت فى زيادة المحصولات الزراعية وتنوعها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة