بقدر ما كان الموبايل وأدوات التواصل والاتصال، أحد أهم مفردات عصر يمكن فيه أن يتخاطب الناس وجها لوجه ويتابعون ما يجرى فى العالم لحظة بلحظة، ميزات ووظائف كثيرة، تقدمها أدوات التواصل فإن التواصل غالبًا ما يتداخل مع فكرة التريند والبحث عن الشهرة أو اختراق الخصوصية والوقوع فى جرائم التشهير والاعتداء بل والنصب والاحتيال، وتبرير الجريمة أو الدفاع عن المجرمين وقلب الحقائق، بل تبدو القضايا التافهة أكثر جذبا من الموضوعات الطبيعية، وبقدر ما تمثل التقنية ثورة فى الاتصال والكشف يمكن أن تتحول إلى سلاح مدمر، فى حال تم استعماله من قبل أشخاص لا يقدرون الفواصل بين العام والخاص.
وهذا الخيط الرفيع هو الذى يفصل بين العام والخاص، وبين الحق فى التعبير والعدوان على خصوصيات الآخرين، وبين المعرفة والعلم والمبالغة ونشر الخوف، حيث تسقط الحواجز بين الخاص والعام، مع العلم أن المجتمع ليس من الملائكة ولا الشياطين، بل هم بشر يريد كل منهم أن يدلى برأيه، سواء عن اقتناع أو مزايدة، وينطلق البعض من زاوية أخلاقية أو دينية، أو عقلية أو طبقية، ومن السهل على كل طرف أن يصدر حكما، ويرى أنه حسم القضية، بينما التفاصيل أكثر تعقيدا، ولا يمكن حسمها برأى أو رغبة، خاصة مع قضية يتم تداولها فى جهات التحقيق وساحات المحاكم، ومكانها هى المقرات القانونية، حيث يمكن فيها الاستماع لكل الأطراف ومناقشة الشهود والاستماع إلى الدفوع، بعيدًا عن عالم التواصل الذى يمثل انحيازات لأطراف لكل منها مصلحته، واتجاهه وأغراضه.
وربما تكون قضية مقتل طالبة المنصورة، هى المثال الأوضح فى الفترة الأخيرة، لكن الواقع أن ظاهرة المرافعة أمام مواقع التواصل موجودة منذ سنوات، حيث كان محامو الدفاع يحاولون تعويض فشلهم أمام جهات التحقيق أو القضاء، باللجوء إلى مواقع التواصل وكاميرات الفضائيات فى محاولة لقلب الحقائق، أو تقديم تصورات غير موجودة، وفى قضية نيرة اتسعت التجاوزات بشكل يمثل عدوانا على حق الضحية وأطرافها، والتشهير بهم.
وتحول الأمر إلى لعبة خطرة، تتجاوز الدفاع إلى التشهير وتشويه الضحية من دون حساب، وإطلاق حملات لجمع أموال بعيدًا عن القانون، وتوظيف رغبات مدمنى التريند للدخول فى اللعبة مع الضحية أو المتهم، ويستغل الموضوع باحثون عن المال، أو الشهرة أو التريند، غير عابئين بالقانون والعدالة.
وهذه الظواهر تضر بقضية الحرية والتعبير عن الرأى، لأنها تمثل عدوانا على حقوق الآخرين وخصوصياتهم، لأنها لا تتعلق بمساحات حرية الرأى والتعبير، إلى العدوان على حريات وخصوصيات الآخرين، بل إنها تساهم أحيانا فى قلب الحقائق، والإضرار بحق الضحايا، لأن الفائز هنا هو الطرف الأكثر قدرة على توظيف أدوات التواصل وصناعة الضجيج، وليس الطرف صاحب الحق.
كل هذا يجعل هناك ضرورة لوضع قواعد للفصل بين ما هو «تواصل اجتماعى»، و ما هو تلاعب وتشهير واعتداء على الخصوصية، وكما قلنا فإن هذا النقاش مطروح فى العالم كله، حيث يتم تطبيق القانون بحسم، ووقف أى تعليق أو تداخل مع القضايا المعروضة أمام القضاء.
وبناء عليه، ونحن نتحدث عن حوار موسع حول المستقبل، تصبح هناك ضرورة، لبحث كيفية الفصل بين العام والخاص، والخيوط الرفيعة التى تفصل بين هذا كله، لضمان حماية الحرية، والخصوصية للأفراد وللقضاء والقانون.