ربما كانت "عصا" العقوبات الدولية، أحد الأدوات الناجعة التي طالما اعتمدتها الولايات المتحدة وحلفائها، في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث كانت دائما ما تضع الدول المارقة، في حالة أشبه بـ"الحصار"، إثر التحرك الجماعي، وعدم قدرة الدول الأخرى، إلا القليل منها، على تجاوز القرار الدولي، وإلا تعرضت هي الأخرى، لإجراءات مماثلة، مما ساهم بصورة كبيرة في إرهاق اقتصادات الدول، التي تضعها واشنطن، في قائمة الخصوم، وهو ما يضع أنظمتها الحاكمة أمام خيارات محدودة، تدور في معظمها حول الاستسلام لإرادة القوى المهيمنة على العالم، أو رفع شعار المقاومة، في مواجهة البطش الدولي، بينما يبقى فريقا ثالثا، يتبنى خطابات المقاومة، في الوقت الذي يتفاوضون فيه في الخفاء، للحصول على أكبر قدر من المزايا أو التنازلات، خاصة مع صعوبة الفرار من التداعيات الكبيرة التي تتركها هذه الآلية على الاقتصاد وشعوب الدول المستهدفة.
إلا أن العقوبات الدولية ربما اتخذت منحى جديدا في الآونة الأخيرة، مع تراجع فاعليتها بصورة كبيرة، فلو نظرنا إلى العقوبات التي فرضتها واشنطن في السنوات الأخيرة، سواء على روسيا، أو فنزويلا أو كوبا أو إيران أو كوريا الشمالية، نجد أن ثمة العديد من العوامل ساهمت بصورة كبيرة في تراجع فاعليتها، منها على سبيل المثال خسارة الولايات المتحدة للدعم الكامل والمطلق من قبل حلفائها، خاصة في أوروبا الغربية، والتي كانت الداعم الأكبر لأمريكا فيما يتعلق بأية إجراءات في هذا الاتجاه، خاصة مع سحب العديد من المزايا التي طالما تمتعوا بها لعقود من جانب، أو التحركات الأحادية التي تبنتها واشنطن في العديد من القضايا الدولية، بعيدا عن دول القارة العجوز، من جانب أخر، وهو ما ساهم في تقليل فاعلية العقوبات الأمريكية.
فلو نظرنا على سبيل المثال للحرب التجارية التي أطلقتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على الصين، وما تخللها من عقوبات أمريكية تراوحت بين التعريفات الجمركية، ومحاولات حصار بكين تجاريا، نجد أن أوروبا الغربية لم تعتمد نفس النهج بصورة كبيرة، خاصة في ظل حاجة دول القارة إلى بديل تجارى، بعدما حرمتهم واشنطن من العديد من المزايا والاتفاقات التجارية، حيث تبقى الصين شريكا مثاليا فيما يتعلق بالتجارة، في ظل اتساع أسواقها، من جانب، ورغبتها في حشد عدد أكبر من الدول، إن لم يكن في خانة الحلفاء، فعلى الأقل تحييدهم بعيدا عن التموضع في خانة الخصوم.
بينما كان تفشى وباء كورونا، بمثابة أحد "فصول" التراجع، في مفهوم العقوبات الدولية، وفاعليتها على المستوى الدولي، حيث فتح الباب أمام بعض الدول، التي طالما صنفها الغرب باعتبارها "مارقة"، وعلى رأسها الصين وروسيا، للصعود على الساحة الدولية، عبر مسارين، أولهما النجاح منقطع النظير في احتواء الأزمة في الداخل، في أوقات قصيرة نسبيا، على الرغم من ملاحقتها بالعديد من الاتهامات المرتبطة بالديكتاتورية وانتهاك حقوق الإنسان، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تغيير النظرة الدولية، على الأقل شعبويا تجاههم من جانب، في حين كان المسار الثاني مرتبطا بقدرتهم، رغم محاولات التضييق عليهم، في تقديم يد العون لشعوب خصومهم الدوليين، وهو ما أضفى مزيد من الزخم للدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الدول في المرحلة المقبلة، خاصة مع تصاعد وتيرة الأزمات غير التقليدية وما لها من تداعيات كبيرة على كافة المستويات.
أما الأزمة الأوكرانية الأخيرة، فقدمت صورة جديدة وربما مختلفة لدبلوماسية العقوبات، حيث باتت تداعيات الإجراءات العقابية التي تتخذها الدول لـ"حصار" أحد الأطراف المارقة، تحمل نتائج كارثية عليهم، في ضوء العديد من المعطيات، أبرزها مدى حيوية الارتباط بين الدول التي تتخذ مثل هذه الإجراءات والدولة المستهدفة، بالإضافة إلى قدرة الأخيرة على إيجاد البديل، الذي من شأنه تعويضها عن الخسائر المحتملة جراء العقوبات، خاصة مع انحسار حقبة الهيمنة الأحادية المطلقة على العالم بأسرة، والتي انطلقت مع بداية التسعينات في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.
ففي الحالة الروسية، ربما نجد أن العقوبات تطال في تداعياتها دول المعسكر الغربي، خاصة في أوروبا، أكثر من تأثيرها على موسكو، وهو ما يبدو في العديد من المؤشرات، أبرزها زيادة قيمة العملة الروسية (الروبل)، في الوقت الذي يتراجع فيه اليورو، إلى الحد الذي تساوى فيه مع الدولار لأول مرة منذ ديسمبر 2002، بينما اتجهت موسكو نحو تصدير أزمات حقيقية لمحيطها الأوروبي، تتعلق بأزمات غير مسبوقة في قطاعي الغذاء والطاقة، ربما تأكل الأخضر واليابس حال عدم إيجاد حلول سريعة لها، في الوقت الذي تبقى الولايات المتحدة أقل تضررا، رغم معانتها الشديد إثر زيادة التضخم.
يبدو أن تراجع مفهوم العقوبات، على المستوى الدولي، ليس وليد اللحظة الراهنة، وإنما ربما مر بالعديد من المراحل خلال السنوات الماضية، وهو ما يرجع في جزء منه إلى الإفراط في استخدام "عصا" التضييق على الدول المارقة، بينما توسع الأمر ليمتد بعد ذلك إلى الحلفاء أنفسهم، كما في الحالة الأوروبية، عندما حرمت واشنطن دول أوروبا الغربية من العديد من المزايا التي طالما منحتها لهم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ربما عقابا لهم على اتساع نفوذهم إلى الحد الذي أثار تكهنات بإمكانية صعودهم لمزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولي، وهو ما أزعج حليفهم التاريخي.
وهنا يمكننا القول بأن "عصا" العقوبات تبدو أكثر فاعلية مع محدودية القوى الدولية الفاعلة في المجتمع العالمي، وهو ما يبدو في ظل الهيمنة الأمريكية، بينما تتلاشى مع التعددية، في ظل المرونة التي تخلقها حالة التنوع، لدى الدول المستهدفة، وبالتالي القدرة على إيجاد بدائل حال حصارها من قبل معسكر بعينه، كما يمنحها قوة أكبر في التفاوض، في مواجهة خصومها الدوليين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة