بيشوى رمزى

مفهوم "الوساطة" الدولية (2).. أبعاد مركبة في الأزمة الأوكرانية

الإثنين، 02 يناير 2023 01:36 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
رغم أن الأزمة الأوكرانية تمثل استنساخا للصراع بين الشرق بقيادة موسكو والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والذي هيمن إبان حقبة الحرب الباردة، إلا أنه يحمل في طياته، طبيعة متعددة الأبعاد، منها ما هو ثنائي بين دولتين هما روسيا وأوكرانيا، من جانب، وقاري، في ظل حالة الانقسام الأوروبي، حول الكيفية التي ينبغي التعامل بها مع الأزمة، خاصة فيما يتعلق بالموقف من تمدد حلف الناتو إلى العمق الاستراتيجي لروسيا، ناهيك عن جدوى سياسة العقوبات، من جانب أخر، بينما تمتد في تداعياتها إلى العالمية، في ظل ما ترتبت عليه من تهديدات طالت العديد من مناطق العالم، خاصة في قطاعي الغذاء والطاقة، وهو ما يضفي طبيعة جديدة للصراع الدولي الراهن، في ظل الامتداد الزمني غير المعلوم، والتمدد الجغرافي، غير المحدود، وهو ما يفرض ضرورة استحداث نهج جديد للتفاوض، القائم على وجود وسيط أو وسطاء دوليين، من شأنهم تقديم "ضمانات"، حقيقية لأطراف الصراع، طبقا للمعطيات الدولية الجديدة، بالإضافة إلى ممثلين للمناطق الجغرافية المتضررة جراء الصراع.
 
ولعل الحديث عن إمكانية التفاوض، قد أثاره قطاعا كبيرا من المسؤولين الغربيين، الذين تناولوا قضية "الضمانات"، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزير الخارجية الأمريكي السابق هنرى كيسنجر، بينما لم تعارض موسكو الفكرة شريطة القبول بالأمر الواقع، فيما يتعلق بالمناطق الأوكرانية التي قامت بضمها، منذ بدء العملية العسكرية، ليثور التساؤل حول ماهية الطرف المؤهل للقيام بدور "الوسيط الضامن"، في ظل غياب الثقة المتبادلة بين أطراف الصراع، وبالتالي تبقى قيادة عملية التفاوض المرتقبة، بعيدة تماما عن الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي باعتبارهما أطراف في الصراع.
 
وهنا تبقى الحاجة ملحة إلى وجود طرف ثالث، يتسم بقدر من الحيادية، ويسعى للفوز بثقة المجتمع الدولي، في قدرته على احتواء الأزمات المستحدثة، ذات الطبيعة الممتدة، زمنيا وجغرافيا، بينما يحظى بثقة كافة أطراف الصراع، للوصول إلى حلول، وهو ما ينطبق إلى حد كبير على الصين، في ظل علاقتها القوية بروسيا، والانفتاح الأوروبي عليها، خاصة بعد التخلي الأمريكي عن الحلفاء خلال السنوات الماضية، فى أعقاب العديد من الاجراءات التي اتخذتها واشنطن بصددهم، فيما يتعلق بالقيود التي فرضتها على التجارة، وكذلك تغير مواقف واشنطن تجاههم مع تغير الإدارات، وهو ما بدا في خطوات إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لتفكيك "أوروبا الموحدة" تارة، والانسحاب من اتفاقية باريس المناخية تارة أخرى، وغيرهما من المواقف التي لم تروق لقادة القارة العجوز، مما دفعهم نحو التقارب مع بكين في السنوات الماضية.
 
ويبدو أن ضرورة دخول الصين على خط الأزمة الأوكرانية، قد نال اعترافا ضمنيا من الولايات المتحدة نفسها، بعد سنوات من التلاسن، والتي وصلت إلى حد الحرب التجارية، وهو ما تجلى في أبهى صوره في التقارب بين البلدين، خلال الأسابيع الماضية، بدء من القمة التي جمعت بين الرئيسين الأمريكي والصيني في نوفمبر الماضي، وإعلان واشنطن التزامها بمبدأ "الصين الواحدة"، ثم تنحية رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي جزئيا عن المشهد، بعد إعلانها التخلى عن قيادة الديمقراطيين في الكونجرس، بعد زيارتها الاستفزازية لتايوان، والتي وضعت العالم على شفا حرب جديدة، وهو ما دفع دولا أخرى محسوبة على المعسكر الأمريكي، للتحول نحو اتخاذ خطوات تصالحية تجاه الحكومة الصينية، بعد سنوات من المقاطعة، على غرار أستراليا، وهو ما يمثل مقدمة، من شأنها تهيئة الأوضاع الدولية، لقبول دور أكبر لبكين على المستوى العالمي، خاصة فيما يتعلق بالأزمة الراهنة.
 
وللحقيقة، تبدو بكين مؤهلة إلى حد كبير، للقيام بدور بارز، فيما يتعلق بقيادة المفاوضات المرتقبة لحل الأزمة الأوكرانية، ليس فقط بفضل المعطيات سالفة الذكر، وإنما أيضا بسبب قدرتها على الاحتفاظ بقدر كبير من الحيادية، منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، وهو ما بدا في موقفها المتوازن من الأزمة، منذ اندلاعها، عبر تأييدها لحق موسكو في حماية أمنها، في الوقت الذي دعت فيه إلى تسوية القضية بالوسائل السلمية، لتتحول بكين من مجرد طرف محسوب على أحد طرفي الصراع، إلى وسيط يمكنه تقديم ضمانات سياسية للجميع، وهو ما يمثل تغييرا كبيرا في المعادلة الدولية، في ظل امتلاكها جزء كبير من أوراق اللعبة، بعد عقود من الاستحواذ الأمريكي عليها، من جانب، بالإضافة إلى نجاحها المنقطع النظير في الخروج الآمن من "معسكر الروس"، بعد وقوفها في المنتصف في الأزمة الأوكرانية، على عكس توقعات دولية كبيرة بانحيازها الصارخ لموسكو.
 
ويعد صعود الصين للقيام بدور قيادى في العملية التفاوضية، بين روسيا وأوكرانيا ومن ورائها الغرب والولايات المتحدة، بمثابة مرحلة جديدة في عملية "الوساطة" الدولية، بعد سنوات من القبول الدولي بأطراف منحازة للقيام بدور الوسيط، في ظل الهيمنة الأحادية، على غرار الوساطة الأمريكية في الصراع العربي الإسرائيلي، أو محاولات تحقيق "الوساطة المتزنة"، عبر دمج أطراف عدة من الموالين لأطراف الصراع لتحقيق حالة من التوازن الشكلي، على غرار المفاوضات التي سبقت الاتفاق النووي الإيراني، وهي المراحل التي لم يكتب لها النجاح، في ظل غياب قوى فعالة، يمكنها تقديم ضمانات حقيقية من شأنها تحقيق حالة من الاستقرار طويل المدى، لتتحول ما تسفر عنه تلك المفاوضات، من اتفاقات من معاهدات، إلى مجرد "هدنة" قصيرة المدى، يمكن انهيارها، بتغير الظروف الدولية، أو حتى بتغير الإدارة الحاكمة هنا أو هناك.
 
وفي الواقع، فإن الضمانات المطلوبة، خلال المفاوضات المرتقبة لحل الأزمة الأوكرانية، لا ينبغي أن تقتصر على طرفى الصراع، وإنما لابد أن تكون ممتدة إلى مختلف مناطق العالم التي تضررت منذ اندلاع العملية العسكرية، عبر الحصول على مزايا من شأنها احتواء التداعيات الكبيرة المترتبة عليها، وهو ما يتطلب وجود قوى فاعلة إقليميا، للدفاع عن حقوق أقاليمهم المتضررة، خاصة في إفريقيا والشرق الأوسط، وهو ما يتطلب دورا أكبر على المستوى الإقليمي، عبر وجود ممثلين لمختلف المناطق الجغرافية، من القوى المؤهلة للدفاع عن أقاليمهم، والاحتفاظ بحقوقهم، في إطار ما أسميته في مقال سابق بـ"دبلوماسية الإقليم"، وهو ما يتجلى، على سبيل المثال، في النجاح الكبير الذي حققته الدولة المصرية، في قيادة مناطقها الجغرافية نحو تبني مواقف محايدة تجاه الأزمة الراهنة، دون انحياز لطرف على حساب الأخر.
 
وهنا يمكننا القول بأن عملية الوساطة التي تتمخض عنها الأزمة الأوكرانية، تبدو مركبة إلى حد كبير، في ظل بزوغ قوى دولية، يمكنها قيادة التفاوض بين طرفي الصراع من جانب، تزامنا مع الحاجة إلى دور أكبر للقوى الإقليمية، للحديث باسم مناطقها والاحتفاظ بحقوقهم، في ظل الأضرار التي لحقت بهم، جراء الصراع الدولي المحتدم.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة