كان الكاتب الصحفى أحمد أفندى حلمى، فى السابعة من عمره عام 1882 حين كان عائدا من كتابه، فرأى جنود إنجليز يهاجمون بائع بطاطا جوالا، وينهبون تجارته وهو يبكى، ويحاول جمع ما يستطيع من تجارته المبعثرة، ولكنهم التهموا ما معه، ولم يكتفوا بذلك بل ضربوه، وحين عاد إلى منزله منفعلًا، لم يستطع أن يبين ما فى نفسه إلى أمه، فاندفع إلى فراشه ونام، ثم استيقظ فى الصباح ليقص على خاله، فرد الخال عليه، إن هؤلاء عساكر من الإفرنج جاء بهم الخديو ليحموه، فألقى فى نفسه منذ ذلك الوقت بغض الإنجليز وكره الخديو، حسبما يذكر الدكتور إبراهيم عبدالله المسلمى، فى كتابه «سجين الحرية والصحافة».
على صفحات جريدة «القطر المصرى» التى أصدرها أحمد حلمى كمجلة أولا فى 24 أبريل 1908، بعد أسابيع من تركه جريدة «اللواء»، ينشر مقالين فى الأول والثامن من يناير 1909 جاء فيهما، أن الأمة المصرية قادرة على انتزاع السلطة ممن ينكر حقوقها، وأن مصر لم تستفد من أسرة محمد على ولا عائلته إلى الآن غير الشقاء والبلاء والظلم والضنك والديون وضياع حقوقها فى قناة السويس التى حفرتها، ووقوعها فى براثن الاحتلال، لقد جنت العائلة الخديوية على مصر غير المظالم المعروفة بين الرعية: الديون التى اقترفها إسماعيل باشا وبيعه أسهم قناة السويس للإنجليز، وتسليمه الأراضى الواسعة للشركة الفرنساوية، وكذلك ما ينسب إلى «توفيق باشا» من تصرفات هيأت للاحتلال الإنجليزى، وأن الأمة المصرية إذا لم تأخذ الدستور عطاء أخذته قسرا».
بين تاريخ المقالين، وبين قصة «بائع البطاطا» كان أحمد حلمى يواصل أيامه منذ مولده فى فبراير 1875، بعد وفاة أبيه، وتربية خاله له، وكانت المحطة المهمة فى حياته هى اتهامه بالعيب فى الذات الخديوية بسبب المقالين من النيابة فى 30 يناير، مثل هذا اليوم، 1909، وفقا للنص الكامل لمحاكمته الذى يأتى فى كتاب «صحفيون خلف القضبان» لمدحت بسيونى، وبذلك كان أول صحفى مصرى يواجه مثل هذا الاتهام، وحسب المسلمى: «ذاع صيته وشهرته واسمه عن طريق ذلك الميدان والشارع اللذين يحملان اسمه فى القاهرة، كملتقى لكل مواصلات الوجهين البحرى والقبلى، ومع ذلك فإن ما وراء ذلك الاسم من تضحيات ونضال، فى سبيل الحرية والاستقلال، لا يعرفها معظم من يرتادون ذلك الموقع الشهير فى القاهرة»، كما لا يعرفون أنه جد الشاعر الفنان صلاح جاهين.
يذكر «المسلمى»: «هو أول من قال عنه الزعيم مصطفى كامل فى مراسلاتهما المتبادلة «أنه ذو شمم وأخلاق فاضلة»، وتمنى له أن يكون أول صحفى فى مصر»، وهو أول من طالب بإنشاء وزارة للزراعة فى مصر، وحمل الدعوة إلى توقيع آلاف العرائض للمطالبة بالدستور من الخديو «عباس الثانى»، وطالب بالمجلس النيابى، وصاحب التحقيق الصحفى المشهور «يا دافع البلاء» عن حادثة دنشواى الذى قال عنه «عباس العقاد»: «لا نعرف فزعا شمل القطر المصرى من أقصاه إلى أقصاه، كالفزع الذى شمله، يوم قرأ الناس أخبار هذه الفاجعة، ونشرتها إحدى الصحف «اللواء» بعنوان: يا دافع البلاء».
ويضيف المسلمى: «هو الذى طالب بأن لا يكون هدف التعليم تخريج موظفين ومستخدمين يأتمرون بأوامر الحكومة والاحتلال، ودعا إلى الوحدة الوطنية بين شعب وادى النيل، فى مواجهة سموم الاحتلال الإنجليزى وأذنابه فى الداخل للتفرقة بين عنصرى الأمة، وعندما تعيد الحكومة فى مارس سنة 1909 العمل بقانون المطبوعات الصادر سنة 1881 يقود مظاهرة للتنديد به، ويسأل الحكومة: «ما هو الفرق بين التقييد بسلاسل من ذهب، أوسلاسل من حديد، أليس التقييد واحدا على كل حال، فهو مانع للرقى وعائق للتقدم».
ويحمل لواء الدعوة إلى مقاطعة البضائع الإنجليزية، وهو صاحب المقالة المشهورة التى استقبل بها وزارة بطرس غالى باشا بعنوان: «لتسقط وزارة بطرس غالى القبطى الاحتلالى، ولتبق وزارة بطرس غالى المصرى الوطنى، ويطالب الجيش المصرى بالانضمام إلى المدنيين فى المطالبة بالدستور والحرية».
وصلت جريدة «القطر المصرى» درجة عالية فى تأثيرها، فحسب «فيليب دى طرازى» فى مجلده «تاريخ الصحافة العربية»: «كانت خطتها المناداة بالعداء للاحتلال الإنجليزى وانتقاد سياسة ممثلة فى مصر، لم يبق عظيم إلا عرفها وقرأها حتى أن الخديو نفسه عباس كان يقرأها خلافا لعادته، ولا يطالع سواها من الصحف المصرية، وكان ضباط الجيش المصرى من عاضديها»، ورغم ذلك فإن النيابة العامة وجهت إليه فى 30 يناير جملة الاتهامات، ومنها «التطاول على مسند الخديوية، الطعن فى نظام حقوق الوراثة فيها، الطعن على ذات الحضرة الفخيمة الخديوية»، وقضت المحكمة بسجنه عشرة شهور حبسا بسيطا، وتعطيل جريدته ستة أشهر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة