ليست البداية من «طوفان الأقصى». كانت غزّة صداعًا دائمًا فى رأس إسرائيل، ولا تزال، فصارت رصيدًا مُهمًّا فى بنك القضية الفلسطينية؛ لكن الحيثية التى ميّزت القطاع كانت وبالًا عليه أيضًا: الاحتلال يتمنّى تصفيته النهائية ولا يمنعه سوى غياب الوصفة الآمنة، ومشروعات الرجعيّة الدينية ذات «الغلاف السُّنّى»، سعت طويلًا لتوظيفه خنجرًا فى خاصرة الأنظمة المُعادية لطموحاتها السياسية، وما يُسمَّى «محور المُمانعة»، بجوهره الشيعى، اجتهد حتى ألحقه بمداره الأيديولوجى ضمن مبدأ «وحدة الساحات». أمّا الفلسطينيون فقد تبدَّلوا بين التحالفات، إمَّا هربًا من الضغط أو طمعًا فى الدعم؛ والمآل الذى لم يختره القطاع بأريحيّةٍ وعن اقتناع أنه صار جزءًا من لعبة المحاور، ونجح حينًا فى المُناورة وأخفق أحيانًا، واليوم بينما يُفعّل خياره المشروع فى المقاومة والتصدّى لغطرسة الاحتلال، تُحاصره أغراض الأعداء والأصدقاء من دون رحمة، ويُدفَع قهرًا إلى مسارات لا يُحبّها أغلب الغزّيين ولا تُرضى طموحاتهم. إنها مُعضلة لا تقل غشومةً عن جيش الصهيونية، ولا قدرةَ للمُتورّطين فيها على فضِّ الاشتباك، والتحرُّر من الالتزامات الاضطرارية أمام شبكات المصالح، والمَخرج أن يُعاد النظر فى خريطة الصراع، وترسيم التقاطعات، وأن تنأى الفصائل المُتصدِّرة للمشهد بنفسها عن أجواء الاستقطاب، وتفرز من يدعمون شواغلها الوطنية بتجرُّدٍ وصفاء، عمَّن يُحاولون إلحاقها باصطفافات «فوق فلسطينية» عابرة للحدود وأولويات القضية.
لا حاجةَ للقول إن مُؤاخاة فلسطين والوقوف بجانب أهلها، واجبٌ تفرضه صِلات التاريخ والجغرافيا، وليس مِنّةً ولا عُرضةً للمُزايدة والتشاحن؛ إنما فى الوقت نفسه لا يمنع من التبصُّر والمُساءلة العميقة وانتقاد الانحرافات، ما وقع منها وما يُحتمَل مُستقبلًا. الأيام الأخيرة أُثيرت أقاويل عن دَفع سكان القطاع إلى التحرُّك جنوبًا، والغاية أن يُساقوا فوق الحدود المصرية بحثًا عن مُستقَرّ بديل؛ وهو أمرٌ تأباه نفوس الفلسطينيين وعدالةُ قضيّتهم، وعضُّهم عليها بالنواجذ طوال العقود الماضية؛ لكن حوادث الماضى تُجيز القلق: كانت «غزّة» تحت الإدارة المصرية حتى يونيو 1967 وقد يُراد زحزحة عبئها مُجدّدًا، وسبق أن لوَّحت الفصائل بورقة الديموغرافيا عندما دفعت عناصرها لاقتحام الحدود فى العام 2008، وطرحت جماعة الإخوان إبان وجودها فى الحُكم مسألة توطينهم فى سيناء، وسعت عمليًّا لذلك عبر تسويق رُؤيتها هنا وهناك، والحديث عن تعديلاتٍ تشريعية تُجيز تملُّك الأجانب للأرض. ربما تغيَّرت توازنات المنطقة وحالتها الجيوسياسيّة عمَّا كانت عليه قبل خمس عشرة سنة؛ لكن أهداف الذين اقترحوا الفكرة المشبوهة لم تتغيّر، والتقاء مصالح الاحتلال والأجندتين «السنيّة والشيعية» على ما فى الشُّبهة من مكاسب، يجعلها جديرةً بالتحسُّب والتصدِّى الجاد.
راهنت الفصائلُ على تحصين الأرض بالأسرى؛ لكنها مُقامرة قد لا تصمدُ طويلًا أمام «بروتوكول هانيبال»، وسبق أن جرى تفعيله فى 2014 للتشافى من «لىّ الذراع» بالمخطوفين. يُرجِّح ذلك أن يقع التوغُّل البرّى، وأن يشتغل على خلخلة الصفوف وطرد دفعاتٍ من السكان خارج بلداتهم.. إزاحةُ الكتلة البشرية الثقيلة عن «غزّة» تُحقّق مصالح تل أبيب، وفيها ما قد تراه «عصابة المُمانعة» إرباكًا لأكبر الدول الوازنة فى الإقليم، وتطويرًا نوعيًّا يُوسِّع الصراع ويفكّ القيود عن أذرعها، أمَّا الإخوان وداعموهم فقد يلتمسون فيه ثأرَهم المكتوم، وقد أسقطت القاهرة قطعة الدومينو الأولى من مشروعهم لخطف السلطة وتديين فضاء المنطقة.. ربّما تتلاقى مصالح بعض الفصائل مع قليلٍ أو كثير من الاحتمالات؛ لكنّ عوام الفلسطينيين يُدركون مخاطر الطرح المشبوه، ولا يرضون بديلاً عن أرضهم الثابتة بالتاريخ والدم وفواتير النضال الباهظة. الطبيعى أن تجتهد إسرائيل لطرد خصومها، كما هجَّرت ملايين غيرهم منذ النكبة فى 1948 حتى الآن، لكن رهان المشاريع الأُصوليّة الكارهة لمصر يظلُّ غير مفهومٍ؛ إذ إنهم بتلك المُقاربات المُعتلّة يُفرِّغون الجغرافيا، ويطعنون القضية فى قلبها، ما يُثير الشكَّ إجمالًا فى حزمة الشعارات التى يرفعونها كُلما طُرِحت مسألة فلسطين. أى لم يعد الأمر صراعًا وجوديًّا أو ثابتًا تفرضه الأيديولوجيا المُتطهّرة، بقدر ما هو مُناورة سياسية لاختصام الغلاف العربى، قوميًّا أو وطنيًّا؛ حتى لو صبَّت المُناكفات الإثنيّة والمذهبية فى صالح الاحتلال.
الظاهرُ راهنًا أن حكومة نتنياهو تتحضَّر لغزوةٍ برّية. التفسير المُباشر أنهم يردّون على العملية المُوسَّعة فى مُستوطنات الغلاف؛ لكنه يظلّ تبريرًا قاصرًا وغير مُعبّر عن حقائق الواقع؛ أقلّه لو نظرنا سريعًا إلى الوراء.. عندما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق أرييل شارون «فكّ الارتباط»، بعدما فشلت عملية «أيام الندم» خريف 2004، وصار المُقترح قانونًا فى العام التالى؛ كان يهربُ من واقعٍ ضاغطٍ، أنتجه اختلال التوازن الديموغرافى بين الفلسطينيين وحركة الاستيطان بالقطاع، وما يترتّب عليه من أعباء اقتصادية وأمنية. طوال ثمانى عشرة سنة لم يكن ذلك محلّ ترحيب اليمين المُتطرّف، لا سيّما ضباع الأرثوذكسية الذين صاروا أخيرًا فى السلطة. طُرِح إلغاء قانون الانسحاب ضمن تفاهمات التحالف الحكومى، وأُقِرّ فعلًا فى فبراير الماضى، وبعدها أُعيد تنشيط أربع مُستوطنات قديمة شمالى الضفة الغربية، وقال رئيس الأركان السابق، أفيف كوخافى، إن الجيش أعدّ خطّة شاملة لإعادة احتلال غزّة.. ربما كانت «طوفان الأقصى» تحرُّكًا استباقيًّا، أو وقعت بالمصادفة فوفَّرت الغطاء الدعائى المطلوب؛ الخلاصة أن عودة ترسانة الاحتلال للشريط الاستراتيجى على ساحل الجنوب، كُليًّا أو جزئيًّا، كانت طوال الفترة الماضية أقرب من صواريخ المقاومة ومن آمال رُعاتها الإقليميِّين.
تداولت أخبار وتقارير إعلامية عقب الضربة الغزّاوية الناجحة، أن نتنياهو رفض خلال اجتماع «الكابينت» مسألة اقتحام القطاع بريًّا، ثمّ رضخ أمام الأغلبية وتهديد شريكيه المُتشدِّدين «بن غفير وسموتريتش» بإسقاط الائتلاف. يتناقض ذلك مع مطالبه المُفرطة من واشنطن فى التسليح والذخيرة، ومع الحديث منذ اللحظة صفر عن «حالة حرب» ودعوته لحكومة طوارئ، وبدء تعبئة الاحتياط وحشد أرتال المُجنزرات والوحدات البرّية على طُرق غزة، وأخيرًا تحريك أحدث حاملات الطائرات الأمريكية ووحداتها المُساعدة لترسو أمام القطاع. ربما كان حديث الرفض من باب المُناورة أو الخداع، وهنا يتوجّب النظر فيما ساقه معه من أسانيد، إذ تساءل عن مسؤولية الحُكم بعد إسقاط سُلطة حماس، وعن اعتراضه على أن يُقدّم هديةً مجانيّة للرئيس عباس، بينما لم يلعب دورًا ملموسًا فى كبح توتُّرات الضفّة. إن كانت مُعضلةُ الإدارة قابلةً للحلّ بتعيين حاكم عسكرى؛ فإن إنجاحه وعدم تكرار إخفاقات ما قبل فكّ الارتباط، قد يُعزّزان التفكير فى تخفيف الأحمال البشرية، وإزاحة مجموعات من السكان جنوبًا، وقد يتبع ذلك استنساخ التجربة شمالاً مع ملايين من سكّان الضفّة، لا سيما مع مُجاهرة الصهيونية «العسكرية والسياسية» بأنه لا مجال للحديث عن دولة فلسطينية من الأساس. أمَّا فى المقلب الآخر، فربّما يتصوَّر رُعاة الإخوان والفصائل أن التحريك قادر على تقويض الأنظمة المُستقرّة، فى مصر الآن وفى الأردن مُستقبلًا، أو فتح ممرّات جديدة للتجنيد واللوجستيات وتوسعة ساحات المواجهة. هكذا يلتقى الخصمان على فكرةٍ واحدة، ظاهرها تحفيز الصراع، وجوهرها خنق القضية وتذويب ما تبقَّى من فلسطين.
ما حدث فى «طوفان الأقصى» كبيرٌ ومُهم، وحقٌّ خالص للفلسطينيين أوّلًا وأخيرًا؛ لكن شمول العملية وفاعليّتها وتنسيقها بالغ الكفاءة والإحكام، تُشير كلُّها لبصمةٍ تتجاوز قدرات المقاومة بلوجستيّاتها المحدودة وخبراتها غير النظامية. لعلّ زيارة صالح العارورى لبيروت منتصف سبتمبر، تحت غطاء النظر فى اشتباكات مُخيّم «عين الحلوة»، تُلمّح لجانبٍ من ترتيبات الكواليس؛ لكن ذلك من هوامش الحدث، ولا غضاضة فى أن تستفيد الفصائل بأىّ دعمٍ مُتاح، طالما لا يمسّ مُرتكزاتها ولا يجرح عصب القضية ونقاوة غاياتها. إنما المشكلة فى أن الشراكات تحمل شيئًا من لروائح أطرافها دون غلبةٍ لرائحةٍ على أخرى، شئنا ذلك أم أبينا، والمعنى أن الانفتاح على مشاريع سياسية أو أيديولوجية لن يخلو تمامًا من انحيازات المانحين، ومهما أخلصت المُقاومة النوايا فقد تعْلَق بعض الأهداف النفعيّة بطرف ثوبها. الأكيد أن المقاومة عندما نفَّذت ضربتها كانت تقتصّ لآلاف الضحايا، وتتمرَّد على سنوات «سحق الكرامة»، وتُبشّر بإرساء مُعادلة جديدة فى مسار الكفاح؛ ثم يأتى أثرُ ذلك على بناء المعنويات وترصيص الصفوف؛ لكن السموّ الذى لا يُمكن إنكاره فى سلوك المقاومين الشباب، لا ينفى احتماليّة أنّ فريقًا خارجيًّا وقف يُوزّع الرسائل من وراء الحدث، ولعلّه يستعد لصرف عوائده فى ميادين بعيدة.
أهم أهداف العملية أن يُوقّع الفلسطينيّون بالحضور، رغم محاولات الإلغاء والتنكيل من جانب قوّة الاحتلال؛ لكن ربما يتضمن بنكُ المصالح أيضًا: الضغط على الإدارة الأمريكية فى حليفتها الأهم، وإعلان الضيق من تعزيز وجودها فى مياه الخليج، ومن عمليّات «تل أبيب» التى وصلت لاغتيال مسؤولين وعلماء داخل بيوتهم ومقرّات عملهم، وكذلك السعى لتعطيل مشروع التطبيع السعودى الإسرائيلى، وممرّ «الهند/ أوروبا» من ورائه، أو تغليب ورقة المُمانعة فى سباق الرئاسة اللبنانية، وتخفيف الضغط عن نظام «الأسد»، مع عودة الاحتجاجات جنوبًا والضربات شمالاً واستشراء الفوضى فى شرق سوريا، وأخيرًا محاولة تقويض السلطة فى «رام الله» وإطاحتها خارج مشهد القضية مُستقبلاً. سواء كان كل ذلك مقصودًا أو كان بعضًا منه فقط، فالفائدة التى تحقَّقت للفصائل تنحصر فى تعزيز التسليح، وترقية تكتيكات التخطيط والتحرُّك فى العمق؛ لكن فى المقابل قد يُساق بعضها عمدًا للتوحُّد مع جبهاتٍ شديدة السخونة والانفلات، ولا يقود ذلك بالضرورة إلى مكاسب مضمونة ودائمة فى بيئتها المُباشرة. لو كان من مُستهدفات تلك القوى نشر مجموعاتٍ من الفلسطينيين ليكونوا حزامًا جديدًا للمحور فى نطاقٍ أوسع، كما يجرى استخدام أذرع الفصائل فى منافيها اللبنانية كلّما أراد مُشغلّوها، فربّما يُقوّض ذلك غايات النضال النبيلة، ويستعير بندقيتها لإسناد برمجةٍ حركية تطمع فى ترسيم توازنات الإقليم بعيدًا من مصالح أصحابه الأصليين، وذلك ضد فلسطين على المدى البعيد، ولا يتناسب مع إيمان أبنائها غير المُؤدلجين بقدسيّة الأرض وأولوية التحرُّر، وما من شكٍّ فى أن الحرية الصافية تتعالى على التبعيّة والزبائنية، بقدر تشدُّدها فى رفض الغَصب والاحتلال.
تدفع الضربات قطاعاتٍ من السكان إلى نزوحٍ داخلى فى نطاقات ضيّقة، وسيزداد مع تصاعد الهجمة واشتداد شراستها، وقال مُتحدّث الجيش الإسرائيلى صراحة «اذهبوا إلى مصر»، ولم يخفُت يومًا الحديث عن فكرة الوطن البديل. القاهرة من جانبها تُساند الفلسطينيين بكل قوَّتها؛ لكن المشاعر الطيبة لا تغلّ يدَها عن حماية الحدود وإحباط محاولات تصفية القضية. مسؤوليّة العالم أن يتصدَّى لهمجيّة تل أبيب، ويُوقِف الحرب الطائشة وإرهاب الدولة المفتوح على الأبرياء العُزّل، وألا يقف مُتفرّجًا على توحُّش طيرانها وتوغُّل عساكرها سعيًا لدفع المدنيِّين إلى الخارج. أمّا الفصائل فعليها التزامٌ بأن تحمى مواقعها بصلابةٍ وثبات، وأن تلتفت لحاملى بعض الأجندات السياسية الذين قد يُحاولون تكرار مشهد 2008، لخوفٍ عارضٍ أو لانحرافٍ مقصود؛ لأنّ وراء ذلك مخاطر حقيقية على حالة التضامن الشعبية فى مصر وغيرها من دول المنطقة، فضلاً على تحقيق أغراض الدولة العبريّة، بتفريغ مواقع حيوية من القطاع أو تيسير مهمّة التمركز الآمن للقوات الغازية. لا يمكن الجَزم ما إذا كانت هناك مُخطّطات أو وعودٌ من بعض الجهات، وحال وجودها يصعُب الارتكان إليها، وإجمالًا قد لا يكون الرهان على توحيد الساحات صائبًا؛ حتى لو حصلت المُقاومة على تطمينات، وقد طالب محمد الضيف «قائد القسّام» علنًا بأن ينخرط الحلفاء معهم، ولم يتلقّ ردًّا عمليًّا ولا معنويًّا. ربما يمرّ المشهد من دون تفعيل الحزب لجبهة الشمال، أو تنشيط الحوثيّين والحشد وميليشيات سوريا فى بيئاتهم لتخفيف الضغط؛ ليتأكّد للحالمين فى «غزّة» أنهم بيدق على الرقعة، وهى منتهى ما يملكون، وإن غامروا بمغادرتها فقد غادروا اللعبة بالكامل.
الاستثمار فى حديث النزوح اليوم، لا يختلف عن سنوات تأليب الفصائل ودقّ الأسافين بين غزّة والضفّة؛ فالأمران من عمل التواطؤ على القضيّة وشقّ قلبها بخنجرٍ بارد. الفلسطينيّون فى الشتات أكثر من تعداد الواقفين على ثغور الداخل، وربما يُغرى ذلك إسرائيل بأن تزيح عبء ملايين، لا تتوقّف عن المُجاهرة بسفالةٍ أنهم لا يستحقّون الحياة. وتواريخ المُخيّمات من «أيلول الأسود» إلى «نهر البارد» وضعت المُهجَّرين فى صداماتٍ عنيفة، وألحقتهم بمشاريع سياسية لا تخصُّهم؛ ولعلّ بعض القوى الإقليمية سيّئة النيَّة تُفكّر فى إعادة تفعيل التجربة. مُجرّد إثارة مسألة الإزاحة الديموغرافية إلى مصر أو الأردن أو غير ذلك جريمةٌ فى حقّ فلسطين، ولن تقبله دول المنطقة الكبرى أو تسمح به. البَلَدان الأكثر مُتاجرةً بالقضية اليوم كانا صاحبى أوّل اعترافين إقليميّين وإسلاميين بإسرائيل، ربما تفرض الأيديولوجيا والمصالح واقعًا مُختلفًا؛ لكن لا يمكن الهروب من حقائق الماضى وفُرص تكرارها، ولا من احتمال أن الملفّ بكامله ورقةٌ قد تُلقَى على طاولة اللعب فى أيّة لحظة. أثبتت الوقائعُ أن العرب كانوا دائمًا الأكثر إخلاصًا للقضية، وأنهم لم يكفروا بها رغم ما تحصَّل عنها من أضرار، بينما عرفها الآخرون مُتأخّرين جدًّا وتحت شرط المنفعة فقط، ولأجل المُناورة أو التمدُّد الحركى والمذهبى. كان «طوفان الأقصى» سامقًا وهادرًا ومهيبًا، وفضح هشاشة العدوّ ورخاوة قبضته التى تصطنع الشدّة، ويجب ألّا يسكن موجه أو يتوقَّف، شريطة أن يظلّ مُخلصًا للأرض المغصوبة، وألّا يتورَّط فى القفز على سياجها العالى.. إنها معركةٌ إنسانيّة عادلة مع العدوّ، غاشمًا وناعمًا، وفيها قد لا يختلف المحتلّ الذى يلتهم جسدَ البلد بالتوراة والميثولوجيا، عن الصديق الذى يُشوّه روحَه بعمامةٍ، بيضاء أو سوداء.