تبدو عملية "طوفان الأقصى" استثنائية، وربما مفصلية، في تاريخ المقاومة الفلسطينية، ليس فقط من حيث التطور النوعي، الذي يبدو واضحا في طبيعة العملية ونتائجها غير المسبوقة من الجانب الميداني، وإنما أيضا من حيث تداعياتها الدولية، في ظل تقاعس واضح، يصل إلى درجة السكون، دام لسنوات طويلة، سواء من قبل القوى الدولية الكبرى (الولايات المتحدة) ومن ورائها الغرب الأوروبي، في احتواء الانتهاكات المتواترة التي ترتكبها قوات الاحتلال، والتي طالت الأراضي والأرواح والمقدسات الدينية، في ظل اقتحامات شبه يومية للمسجد الأقصى، وعمليات هدم المنزل، وقتل الأطفال والشيوخ، ناهيك عن توسيع مساحة المستوطنات على الأراضي الفلسطينية.
ولعل أهم ما يميز العملية الأخيرة، هو ما تحظى به من تأييد، خاصة على المستوى الشعبوي، وهو ما تجاوز المنطقة العربية والإسلامية، والتي طالما أعربت عن دعمها للقضية، تحت راية دولهم، والتي تنظر إلى القضية باعتبارها "حجر الزاوية" لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، إلى الغرب، الذي يمثل العمق الداعم للاحتلال منذ عقود طويلة، وهو ما تجلى في مظاهرات حاشدة، امتدت من تورنتو في كندا مرورًا بنيويورك وصولا إلى مدريد في إسبانيا، دعما للمقاومة الفلسطينية، وهو ما يمثل نقلة مهمة، ربما تدفع إلى تغيير ملموس في المواقف الدولية تجاه القضية، حال النجاح في استثمار الزخم الناجم عن العملية.
حالة التأييد الشعبوي العالمي، الذي يحظى به "طوفان الأقصى" أضفى قدرًا من "الشرعية" لـ"حالة" المقاومة التي تضاهي تلك التي يمنحها المجتمع الدولي، سواء عبر القوى الكبرى أو ذراعها الأممي، وهو ما يقدم بعدًا جديدًا للزخم الدولي الذي تحظى به القضية الفلسطينية بعد محاولات دولية حثيثة لتهميشها، عبر تأجيج الفوضى في المنطقة بأسرها، في العقد الماضي، لتتوارى خلف مخاوف أمنية جراء الحروب والإرهاب والتهديدات التي أحاطت بدول المنطقة.
والحديث عن "حالة" المقاومة، وشرعيتها التي اكتسبتها في الآونة الأخيرة، تحمل في طياتها كافة المكونات الفلسطينية، فلا تقدم ميزة لفصيل دون الآخر، بل وتمتد كذلك لكافة الاجراءات الداعمة التي اتخذتها الدول المؤيدة للقضية، وفي القلب منها مصر، خلال الأشهر الماضية، وهو ما يعني أن الزخم الراهن، هو بمثابة تتويج لـ"حالة" كاملة، تحمل جانبا سياسيا، تجسد في خطوات جادة نحو المصالحة الفلسطينية، برعاية مصرية، كانت أخر جولاتها في العلمين الجديدة في يوليو الماضي، شاركت فيها دولا أخرى على غرار المملكة العربية السعودية والجزائر، وجانبا دبلوماسيًا، عبر المساعي لنيل عضوية الأمم المتحدة واللجوء لمحكمة العدل الدولية لتشخيص الوضع القانوني للاحتلال، ناهيك عن جانب تنموي، تجسد في مؤتمر دعم القدس، والذي حمل عنوان "صمود وتنمية" الذي انعقد في مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، في فبراير الماضي، بمشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسي وعاهل الأردن، الملك عبد الله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وذلك لدعم سكان المدينة المقدسة، عبر تقديم أكثر من 82 مشروعا يحاكي احتياجات القدس بكافة القطاعات وتشكيل فريق قانوني داعم لتعزيز صمود أهل القدس خاصة في ظل الحرب المفتوحة التي تشنها سلطات الاحتلال، على كل ماهو فلسطيني.
ويبقى التحدي الأكبر الذي يواجه القضية في المرحلة الراهنة، متجسدا في كيفية الحفاظ على المكتسبات، التي ترتبت عن "حالة" المقاومة بصورتها الشاملة سالفة الذكر، عبر مواصلة التحرك على كافة الأصعدة، وهو الأمر الذي يتطلب المزيد من الوحدة، على صعيد الداخل الفلسطيني، عبر خطوات إضافية من شأنها تحقيق اختراق كبير في مسألة المصالحة، دون أي محاولة من قبل أي طرف للاستئثار بالصدارة على حساب الاخر، بل العمل كوحدة واحدة، حتى يمكن استثمار ما باتت تحظى به تلك "الحالة" من شرعية، يمكن البناء عليها في المستقبل، في ضوء معطيات دولية تخدم بقوة القضية طويلة الأمد، أبرزها صعود قوى جديدة يمكنها القيام بدور أكبر، سبق وأن أعربت مرارا وتكرارا عن دعمها لحق الفلسطينيين في دولة مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، على غرار الصين وروسيا، ناهيك عن المستجدات في أوكرانيا، وما ترتب عليها من محاولات لاستقطاب الدول العربية من قبل الغرب، وهو ما يعطي مساحة من المناورة للدول العربية للحصول على أكبر قدر من المكاسب فيما يتعلق بقضيتهم المركزية.
وهنا يمكننا القول بأن استثنائية "طوفان الأقصى" لا تقتصر على مجرد كونها صفعة عسكرية للاحتلال، وإنما تتجلى في أبهى صورها في كونها "حلقة" مهمة في "حالة" المقاومة، والتي لم تعد مجرد عمليات ميدانية نوعية، وإنما باتت تحمل طابعا أكثر شمولا وامتدادا، تعتمد منهجية تقوم على البناء، سواء سياسيًا عبر ام الشمل في الداخل، او دبلوماسيا، من خلال استثمار اللحظة الدولية الراهنة لتحقيق المكاسب، أو اقتصاديا، عبر أبعاد تنموية، ينبغي تعزيزها في المستقبل