بيشوى رمزى

الدبلوماسية المصرية.. عبقرية الخروج من إطار "الأدبيات" النمطية

الأربعاء، 04 أكتوبر 2023 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ربما شهدت الدولة المصرية خلال السنوات الماضية حالة من التحول من "الأدبيات" التقليدية، نحو التعامل مع الواقع الجديد، سواء فيما يتعلق بالداخل أو السياسات الخارجية، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد، ارتبطت بإعادة صياغة المفاهيم الراسخة، حول دور الدولة، سواء تجاه مواطنيها أو في محيطها الدولي، وهو ما يعكس انسجاما كبيرا، ومرونة في التعاطي مع الأوضاع الراهنة، سواء سياسيا أو اقتصاديا، أو مجتمعيا أو جغرافيا أو دبلوماسيا، بعيدا عن الشعارات الزائفة، التي طالما روجت إليها الأنظمة السابقة، لعقود طويلة من الزمن، بينما كانت النتائج العملية تعكس مزيدا من التراجع، وهو ما ترجمته الفوضى التي شهدتها البلاد مع بداية العقد الماضي.
 
ولعل التحول من "الأدبيات" التقليدية، والتي اعتمدت الترويج لفكرة "الدولة القائد"، في مناطقها الجغرافية، لم يكن متواكبا من الناحية العملية، مع مرحلة ما بعد الفوضى، أو ما يمكننا تسميته مرحلة "البناء"، في ظل تراجع اقتصادي وسياسي، وأمني، وهى المرحلة التي دائما ما ترتبط في عرف العديد من الدول بسياسات "الانكفاء على الذات"، بحيث تركز الدولة، على استعادة أوضاعها في الداخل، فيما يتعلق بالاستقرار والأمن والانطلاق نحو الحالة التنموية، بينما تعزف عن القيام بأي دور على ساحتها الإقليمية أو الدولية، وهو ما يبدو على سبيل المثال في النموذج الروسي، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، في التسعينات من القرن الماضي، حيث ارتكزت موسكو على تحقيق الإصلاح في إطار سياسات اقتصادية، سواء في عهد بوريس يلتسين أو حتى مع بداية عهد الرئيس فلاديمير بوتين، عندما تولى السلطة في بداية الألفية، حيث لم يتجه في سنواته الأولى نحو مجابهة القوى الكبرى، بل على العكس، اتبع دبلوماسية تحمل قدرا كبيرا من النعومة تجاه خصومه التقليديين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
 
إلا أن سياسة "الانكفاء على الذات"، ربما لم تكن الخيار الأمثل للدولة المصرية، في مرحلة "البناء"، في ظل العديد من المعطيات، المرتبطة بالمستجدات الدولية والإقليمية، وعلى رأسها ما تعرضت له من حملات تشويه، في أعقاب 30 يونيو، وما ترتب على ذلك من محاولات تضييق من قبل "المعسكر الغربي"، ناهيك عن صعود قوى جديدة، على غرار الصين وروسيا، وكذلك حالة العزلة عن المحيط الإفريقي، والفوضى المهيمنة في الشرق الأوسط، والتي تمثل في ذاتها تهديدا حيويا، جراء ما اتسمت به من امتداد جغرافي، خاصة مع انتشار الميليشيات المتطرفة هنا وهناك.
 
وهنا ظهرت الحاجة إلى سياسة معتدلة، تعتمد التركيز على الداخل، في الوقت الذي تتعامل فيه جديا مع المستجدات الدولية، وهو ما بدا في التقارب الكبير مع القوى الصاعدة، لتحقيق حالة من التوازن المفقود جراء الاعتماد على حليف واحد لعقود طويلة، بينما سعت في الوقت نفسه إلى تغيير الخطاب الدبلوماسي، من صيغة "القيادة" الإقليمية، وتحويله إلى أخرى تعتمد "الشراكة"، سواء في العمق القاري أو الإقليمي، مما ساهم في إذابة العوائق التي من شأنها تحقيق الانطلاق نحو أفاق أوسع من التعاون، ربما كانت الدولة في أشد الحاجة إليه في تلك الفترة، بينما ساهمت مع مرور السنوات، في استكشاف دور جديد، يبدو أكثر أهمية، يتجسد في كونها "نقطة اتصال" بين الأقاليم، عبر تعزيز العلاقة مع أوروبا شرقا وغربا، والقوى الآسيوية، ناهيك عن التقارب مع روسيا، مع الاحتفاظ بالعلاقة مع الولايات المتحدة، وهو ما أنجح الدور المصري في الدفاع عن مصالح الدول الواقعة في نطاقها الجغرافي، وفي القلب منها أفريقيا، في العديد من المحافل الدولية.
 
عبقرية الرؤية المصرية تتجسد في كونها أعطت الأولوية لاستعادة الاستقرار في الداخل، بينما أدركت أنه مرتبط في الأساس بالاستقرار في دول الجوار، في ظل الطبيعة الجديدة للأزمات، والتي ظهرت بوادرها في "الربيع العربي"، عندما انتقلت دائرة الفوضى من دولة إلى أخرى تدريجيا، لتضع المنطقة كلها على حافة الهاوية، وبالتالي لم يكن ممكنا أن تتجاوز ما يحيط بها من أوضاع عالمية، فأصبحت السياسة الخارجية بمثابة أداة مهمة لخدمة الداخل.
 
وفي الواقع، حققت حالة التحول نحو "الشراكة" نجاعة كبيرة في استعادة الدولة المصرية لزخمها في محيطها الجغرافي، سواء في أفريقيا أو الشرق الأوسط،  عبر العديد من الأدوات، ربما أبرزها تعزيز حالة "التشاور"، وهو ما يبدو في تجاوز الحالة "الثنائية" في العلاقات الدولية، نحو أفاق أوسع، على مستوى القمم الثلاثية، وأحيانا الرباعية والخماسية، في إطار من الحوار الإقليمي، الذي من شأنه تحقيق المزيد من التعاون فيما يتعلق بالقضايا المشتركة، على غرار الشراكة الثلاثية مع اليونان وقبرص، والتعاون مع العراق والأردن، وكذلك الشراكة الصناعية مع الأردن ودول الخليج، وغيرها، والتي أسفرت في نهاية المطاف عن تدشين منتديات دولية أوسع نطاقا، منها على سبيل المثال منتدى غاز شرق المتوسط.
 
بينما يبقى زخم التجربة المصرية، في الداخل، فيما يتعلق بعملية "إعادة بناء" الاستقرار واستعادة الحالة الأمنية، ذراعا أخرى للدبلوماسية المصرية، في السنوات الأخيرة، وهو ما بدا في استلهام تجاربها المتنوعة، بدءً من مكافحة الإرهاب، مرورا بالمساعي نحو تحقيق التنمية المستدامة، وحتى الحوار الوطني، في العديد من الدول حول العالم، مما يعكس أهمية الدور المصري، في إرساء الاستقرار الإقليمي والدولي في السنوات الأخيرة، وانعكاس لأهمية رؤيتها القائمة في الأساس على تفادي أخطاء الماضي، التي ساهمت في نشر بذور الفوضى في المنطقة.
 
وهنا يمكننا القول بأن السياسات الخارجية للدولة المصرية في السنوات الأخيرة، تخلت في جوهرها عن الشعارات التي جار عليها الزمن، بينما استعادت دورها من خلال توظيفها لخدمة الداخل، في الوقت الذي ساهمت فيه السياسات الداخلية، في تعزيز دورها الدولي، عبر استلهام ما تحقق من إنجازات في دول أخرى، ومحاولة تطبيقه بما يتناسب مع ظروف وإمكانات كل دولة وبيئتها السياسية وثقافة مواطنيها، وهو ما ساهم في تعزيز المكانة الدولية والإقليمية لمصر في ظل حقبة دولية جديدة، بما يتواكب مع معطياتها ومفاهيمها، في المرحلة المقبلة، لتصبح الدبلوماسية المصرية جزءً لا يتجزأ من حكاية وطن، لم تقتصر تحدياته على الداخل، وإنما امتدت إلى الخارج، جراء إرث طويل من "الاكتفاء" بالشعارات القيادية، والتي اقتصرت على منطقة الشرق الأوسط، بينما تجاهلت مناطق جوهرية في محيطها الجغرافي، سواء على المستوى الإفريقي أو المتوسطي.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة