ارتبط ظهور "نشطاء" السياسة بالصعود الكبير لمواقع التواصل الاجتماعي، حيث وجدوا فيها ملاذًا آمنًا للتعبير عن رؤاهم فيما يتعلق بالعديد من القضايا، بينما سمحت لهم بصورة كبيرة بتقديم أنفسهم باعتبارهم "مدافعين" عن حقوق المجتمع، والأقليات والمضطهدين في الأرض، عبر خطابات حنجورية، من شأنها استقطاب فئات عديدة، وهو ما بدا في العديد من مناطق العالم، ربما استهلتها منطقة الشرق الأوسط، خلال "الربيع العربي"، عندما نجحت فئات من "النشطاء" استقطاب الشباب، وتغذية نزعات التمرد لديهم ضد دولهم، فتحولت المنطقة إلى "كرة من لهب" إثر حادة الفوضى التي ترتبت على تلك الحالة، مما وضع العديد من دولها في دائرة غير متناهية من الصراع والحروب الأهلية، ساهمت في تدميرها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، جراء التشرذم والانقسام الذي ساد بعضها لأكثر من عقد كامل من الزمان.
إلا أن معضلة "النشطاء" ربما لم تقتصر على منطقتنا، وإنما امتدت إلى العديد من المناطق الأخرى، بين أوروبا والولايات المتحدة، وغيرهما، حيث حمل بعضهم شعارات سياسية، على غرار ظهور بعض الشباب في أمريكا يتبنون دعاية معارضة للرئيس السابق دونالد ترامب، وآخرون اجتماعية، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم الاقتصادي في السنوات الأخيرة، بينما كان للمناخ هو الآخر نشطاءه، الذين سعوا إلى حشد موالين لهم، لتنظيم الاحتجاجات ضد سياسات الطاقة التي تتبناها دولهم، خاصة مع "توحش" ظاهرة التغيرات المناخية، وما تحمله من تداعيات كبيرة طالت العديد من الدول، تراوحت بين الأعاصير والفيضانات وحتى حرائق الغابات التي التهمت مساحات شاسعة من الأراضي من شرق الكرة الأرضية إلى غربها.
والملاحظ في حركة نمو "النشطاء" أن صعودهم يبدو مرتبطًا بأهداف سامية تلقى تعاطفا شعبيًا مرحليا، لارتباطها بأوضاع معينة، ربما تثير حالة من الامتعاض العام في مجتمعاتهم، في حين أن مرحلة الخفوت ترتبط بفشل دعواتهم، في تحقيق أهدافها المعلنة لعدم تماهيها مع الواقع، وبالتالي تحول بلادهم إلى تلك الحالة الفوضوية التي سبق وأن شهدتها منطقتنا في العقد الماضي، أو وصولهم إلى مواقع المسؤولية، وهو ما يرجع في الأساس إلى الاختلاف الكبير بين العمل السياسي، والذي يعتمد في الاساس على ما يسمى بـ"فن الممكن"، في ضوء الظروف والمستجدات، على عكس الفضاء الواسع للكلمات الرنانة والخطابات الحنجورية، ذات الخيال الواسع، التي سبق وأن تبنوها على صفحات "السوشيال ميديا"، والتي من شأنها تفعيل عواطف المتابعين، و"تغفيل" العقول، إن صح التعبير.
وبين الواقعية السياسية والخيال الرومانسي، تبدو العديد من النماذج حول العالم لنشطاء ربما تراجعت شعبيتهم، في أعقاب وصولهم إلى أروقة السلطة، ربما بسبب عدم قدرتهم على التعاطي مع الواقع، أو انقلابهم على خطاباتهم السابقة، التي وصلوا بها إلى مواقعهم، وهو ما يبدو على سبيل المثال عدم قدرة ميجان ماركل، على مواكبة حياة القصر في بريطانيا بسبب ميولها التي ترفض التقيد بالبروتوكولات، مما وضعنا في مواقف حرجة مع الأسرة المالكة، دفعت في نهاية المطاف إلى الخروج وزوجها الأمير هاري من بريطانيا، بل وتجريدهما من ألقابهما الملكية.
الأمر نفسه يبدو أكثر وضوحا في أوكرانيا، عندما اندلعت ثورة عارمة في البلاد ضد حكم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش في 2014، تجردت خلالها كييف من موقفها الحيادي بين روسيا والغرب، ليأتي بعده الرئيس السابق بيترو بوروشينكو، والموالي لواشنطن، والمدعوم من "النشطاء"، لتبدأ سلسلة من المعارك، وربما الهزائم، بدءا من قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم وحتى العملية العسكرية الروسية في العام الماضي، لتترك تداعيات عميقة على المجتمع الدولي بأسره.
وهنا يمكننا القول بأن معايير تقييم الخطاب السياسي، لا تعتمد على "الحنجورية"، وإنما مدى قابلية الرؤى المقدمة إلى التطبيق العملي على أرض الواقع، في ظل المستجدات الدولية والإقليمية، ناهيك عن المعطيات الداخلية، وهو ما ينبغي إدراكه في ضوء العديد من الدروس المتواترة، سواء في منطقتنا وما آلت إليه الأمور بها خلال العقد الماضي، أو من خلال قراءة متأنية للمشهد الدولي بأسره، في ظل العديد من التقلبات التي زعزعت الاستقرار، ليس فقط في الداخل او في المحيط الجغرافي، وإنما امتدت تداعياتها لتمس قطاعات حيوية، على غرار الغذاء والطاقة، لدى أعتى الدول سياسيا واقتصاديا، بينما نالت الدول الأخرى الأقل تقدمًا قسطًا وافرًا من الأزمات، والتي قد لا تطيق احتمالها.