في الوقت الذي يتجه فيه النظام العالمي نحو قدر كبير من التعددية، في ظل صعود العديد من القوى الدولية، على غرار الصين، واستعادة بعضها لجزء كبير من نفوذها، وعلى رأسها روسيا، ناهيك عن إمكانات كبيرة تمتلكها بعض التكتلات، كالاتحاد الأوروبي، وبريكس، والتي من شأنها المساهمة في تشكيل صورة جديدة للعالم، تتجسد معضلة "محدودية" المنافسة، في الداخل، أحد أهم المعضلات التي تواجه القوى الدولية الكبرى (الولايات المتحدة)، ومن خلفها بعض حلفائها، وعلى رأسها بريطانيا، في ظل اقتصار التنافس السياسي على حزبين رئيسيين، وهو ما يتضح بصورة كبيرة في الحالة الأمريكية، حيث تقتصر المنافسة على الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بينما تتواجد أحزاب أخرى لا تتجاوز في حقيقة الأمر دور "الكومبارس" السياسي، حيث لا يتعدى تمثيلها الـ1% داخل المؤسسات التشريعية، وهي نفس النسبة، وربما أقل التي تحصل عليها حال خوضها الانتخابات الرئاسية.
ولعل حالة "الثنائية" الحزبية التي هيمنت على السياسة الأمريكية، منذ نشأة الولايات المتحدة، لم تكن معضلة طيلة العقود الماضية، منذ صعود واشنطن نحو القيادة الدولية، بعد الحرب العالمية الثانية، في الأربعينات من القرن الماضي، بسبب تماهيها مع الحالة الدولية العامة، والتي عاشت عقودا في إطار "ثنائية" أخرى، في ظل التنافس الأمريكي السوفيتي، ثم ظلت متواكبة مع الهيمنة الأحادية، منذ التسعينات، إلا أن ثمة متغيرات كثيرة ربما طفت على السطح في الآونة الأخيرة، دفعت نحو كشف العديد من الثغرات في السياسة الأمريكية، ربما ساهمت بصورة كبيرة في تغيير الصورة الدولية السائدة، التي رسمتها أمريكا لنفسها، وهو ما أبرزناه في مقال سابق، حول كونها "البوتقة" التي تذوب بداخلها التوجهات والحضارات والأجناس، في إطار يبدو تعددي، يتعارض مع السياسات الدولية التي تبنتها بلاد "العم سام" كانت تهدف فقط لتعزيز هيمنتها على العالم.
وعلى الرغم من اتساع مفهوم الديمقراطية، الذي طالما نادت به واشنطن منذ صعودها، ليتجاوز في جوهره "الثنائية" الحزبية، نحو التعددية، يبقى الالتزام باقتصار المنافسة بين حزبين في الولايات المتحدة محلا للتساؤل، في ظل العديد من المتغيرات، وأولها عدم القدرة على التعامل مع الأزمات المستحدثة، في الإطار الدولي الواسع، على غرار الوباء والتغيرات المناخية، والتي تتزامن مع تداعيات شرسة للصراعات الدولية، طالت الغذاء والدواء ومتطلبات الحياة الأساسية لدى قطاع كبير من دول العالم، بنفس الكفاءة، التي كانت تتعامل بها واشنطن مع الأزمات الأخرى، خلال العقود الماضية، والتي اعتمدت فيها على تقديم الدعم، والذي كان غالبا ما يرتبط بشروط الدوران في الفلك الأمريكي، ناهيك عن العجز الحالي في احتواء الانقسام الداخلي المتزايد، والذي تجلى في أبهى صوره في العديد من المشاهد، التي تبدو غريبة على السياسة الأمريكية، والتي تراوحت بين الإضرابات والاحتجاجات، وحتى اقتحام الكونجرس في يناير 2021.
فلو نظرنا إلى السياسة الخارجية الأمريكية، ربما نجد أن ثمة علاقة وثيقة بين حالة "الثنائية" الحزبية، والتراجع الملموس، مع صعود قوى جديدة على الساحة الدولية، حيث تبقى المنافسة المحدودة في الحياة السياسية الأمريكية، سببا رئيسيا في انعدام ثقة الحلفاء والخصوم على حد سواء، وهو ما بدا في السنوات الأخيرة، جراء التباين الحاد بين السياسات التي تبنتها واشنطن تجاه العالم الخارجي، حيث لم يكن صعود الرئيس جو بايدن إلى "عرش" البيت الأبيض كافيا لـ"تضميد" الجراح التي تركها سلفه دونالد ترامب، خاصة مع احتمالات عودته أو صعود من يتوافق مع رؤيته، جراء التصاعد الكبير في شعبيته في الشارع الأمريكي، وبالتالي غياب ما يمكننا تسميته بـ"تيار الوسط"، الذي يمكنه الوصول إلى حلول توافقية مع الدول الأخرى، وهو ما يفسر الشكوك الكبيرة في مستقبل القيادة الأمريكية بين دول الغرب الأوروبي.
بينما تبقى المعضلة نفسها في الداخل، جراء غياب الوجوه الجديدة، التي يمكنها تقديم الحلول غير التقليدية، وهو ما يفسر في جزء منه شعبيه ترامب الطاغية، حيث يبقى وجها سياسيا مختلفا عن أسلافه رغم كونه محسوب على الحزب الجمهوري، وهو الأمر الذي يبدو مثيرا للقلق ليس فقط لخصومه الديمقراطيين، وإنما أيضا لقطاع كبير من الجمهوريين من أصحاب الأفكار التقليدية.
وبالنظر إلى التجارب الأخرى في الدول الديمقراطية، ربما نجد أن "التعددية" الحزبية بمفهومها الواسع، قدمت حلولا مرحلية، في ظل الغضب الشعبي جراء السياسات التقليدية، وهو ما يتجلى على سبيل المثال في نموذج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي وجد مكانه على قمة السلطة من رحم حزب جديد أسسه، قبل خوضه الانتخابات الرئاسية في 2017 بشهور قليلة، تحت اسم "الجمهورية إلى الأمام"، حيث راهن في واقع الأمر على حالة الامتعاض السياسي من الأحزاب التقليدية، والتي باتت واضحه في فشل أسلافه (نيكولا ساركوزي وفرنسوا أولاند) في الحصول على أكثر من فترة رئاسية واحدة، ناهيك عن التظاهرات والإضرابات جراء عدم القدرة على تحقيق اختراقات كبيرة في العديد من الملفات، وفي القلب منها الملف الاقتصادي.
وهنا يمكننا القول أن حالة الالتزام بـ"الثنائية" الحزبية، باتت لا تتواكب إلى حد كبير مع المرحلة الدولية الراهنة، بالإضافة إلى كونها غير موائمة لتداعياتها في الداخل، وبالتالي تبقى الحاجة، إلى "تيارات وسط"، يمكنها التعامل مع الواقع الجديد، بعيدا عن الأيديولوجيات التي تهيمن تاريخيا على الأحزاب التقليدية، والتي حملت أولويات كبيرة في سياساتها، إلى الحد الذي طغى على مصالح الشعوب.