أزمات عدة باتت تلاحق مفهوم الديمقراطية، لا تقتصر في نطاقها على دول العالم النامي، وإنما باتت تمتد إلى الدول المتقدمة، التي طالما دعت إلى المفهوم، إلى حد "التبشير" به، فصار بمثابة البديل الشرعي للهيمنة الدينية، التي سيطرت على أوروبا إبان العصور الوسطى، وهو ما يفسر إلى حد كبير اقتباس بعض المصطلحات الدينية، من قبل أكثر القوى الدولية دفاعا عن المفهوم، على غرار إطلاق "الحرب المقدسة"، على الغزو الأمريكي للعراق، والذي جاء تحت ذريعة امتلاك بغداد لأسلحة دمار شامل، بينما حملت كذلك شعار "الديمقراطية" على الطريقة الغربية، وهو ما لم يتحقق إطلاقا بعد ذلك، حيث تحولت بلاد الرافدين إلى ساحة للصراع الأهلي، ثم ملاذا آمنا للتنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها داعش، التي أطلقت منها هجماتها إلى دول المنطقة، ثم انتقلت لتهدد العالم بأسره.
ولعل تحول مفهوم "الديمقراطية" من مجرد نظام سياسي، يعتمد حرية الشعوب في اختيار أنظمتهم الحاكمة، إلى "أيديولوجيا"، ساهم في بزوغ العديد من الصراعات الدولية، أبرزها "صراع الحضارات"، والذي اختصم فيه الغرب الدين الإسلامي صراحة، سواء عبر الخطابات السياسية، التي تبناها كبار المسؤولين في الغرب، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، أو الخطاب الإعلامي، وهو ما ساهم في حالة من التفكك المجتمعي في الداخل، جراء تداعيات تلك السياسة على المجتمعات، والتي شهدت استهدافا صريحا للمسلمين في الشوارع في إطار ما يسمى بـ"الإسلاموفوبيا"، من جانب، بينما ساهم في تراجع شعبية المفهوم بعد ذلك في دول الشرق الإسلامي، والتي ارتأت أن المفهوم قد جاء لاستهداف معتقداتهم الدينية، خاصة مع الارتباط بينه وبين الحرية بمفهومها الواسع، عبر الدفاع المتصاعد عن "المحرمات"، كالمثلية أو ازدراء الأديان وغير ذلك.
وفي الواقع، تبدو معضلة الديمقراطية الرئيسية في مسارين رئيسيين، أولهما غياب "المرونة" في التطبيق، بحيث تتناسب مع طبيعة كل دولة وكل منطقة، وظروفها وبيئتها، بينما يبقى المسار الأخر هو تحول المفهوم إلى "أداة" لهيمنة الغرب على العالم، عبر تصدير نموذج بعينه، تسعى القوى الدولية الكبرى إلى تطبيقه بحذافيره في كافة دول العالم، فتصبح لها السيطرة الكاملة، على مقدرات تلك الدول، في ظل صعود أنظمة موالية لها، إلى سدة الحكم، وبالتالي ضمان ولائها، والدوران في فلكها، من جانب آخر، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تراجع هذا النموذج في العديد من الدول خلال السنوات الأخيرة.
فالمرونة الغائبة عن مفهوم "الديمقراطية" الغربية، ساهمت في تراجعه بصورة كبيرة، خاصة في دول الغرب الأوروبي، عندما فشل في أول مواجهة مباشرة مع الأزمات ذات المدى الطويل نسبيا، وهو ما يبدو خلال حقبة "الوباء"، حيث فشلت "الأيديولوجيا"، في احتواء الأزمة، في الوقت الذي نجحت فيه أنظمة أخرى طالما وصمها الغرب بالديكتاتورية، على غرار الصين، في احتوائها، في زمن قياسي، وهو ما ساهم في حالة من الاحتقان المجتمعي، جراء الفشل في التعامل مع الأزمة، رغم ما تمتلكه دولهم من إمكانات كبيرة، مقارنة بدول أخرى استطاعت أن تضع حدا لها، رغم محدودية إمكاناتها.
بينما ساهم تحول المفهوم إلى "أداة" للهيمنة، في انتهاز الفرص من قبل شعوب العالم للخروج عليه، في العديد من المناطق، وهو ما يبدو في المشاهد الأخيرة، التي تصدرتها أفريقيا في الأسابيع الماضية، في ظل ذكريات لا تبدو طيبة مع تلك القوى التي مارست تجاههم كافة أشكال الاستعمار، بدءً من صورته العسكرية، إبان الحقبة الاستعمارية، مرورا بالاقتصادي، وحتى ما أسميته في مقال سابق بـ"الاستعمار القيمي"، عبر فرض منظومة القيم التي أرساها الغرب عليهم، دون اعتبار للظروف أو البيئة.
تبدو الطبيعة "الأيديولوجية" لمفهوم الديمقراطية هي المعضلة الرئيسية التي تواجهه في اللحظة الراهنة، خاصة مع صعود قوى جديدة، على الساحة الدولية، وعلى رأسها الصين وروسيا، يمكنها مزاحمة نظيرتها المهيمنة (الولايات المتحدة ومن ورائها دول المعسكر الغربي)، تمكنت من تقديم نفسها بصورة المدافع عن حقوق الدول في اتخاذ النموذج الذي يناسب ظروفها مما ساهم بمساحة أكبر من المناورة أمام العديد من الدول، حتى يمكنها تطبيق رؤيتها، بما يتوافق معها ومع بيئتها المحيطة، وهو الأمر الذي يبدو مستساغا ليس فقط من قبل الدول، وإنما أيضا من جانب المجتمعات، في ضوء تعارض جزء كبير من "الأيديولوجية" مع قيمها، وثقافاتها، إلى الحد الذي وصل في بعض الأحيان إلى استهداف أديانها، ناهيك عن إرث طويل من الغضب جراء القوى التي تروج لها، جراء تاريخ استعماري طويل على النحو الذي أشرت إليه.
وهنا يمكننا القول بأن تحول مفهوم "الديمقراطية" من مجرد وسيلة لتنظيم الحكم إلى "أيديولوجيا"، هو المعضلة الأكبر التي واجهت الديمقراطية، حيث شعرت بها شعوب الغرب مع أولى مواجهاتهم المباشرة مع الأزمات، بينما استمرت مع تواترها، في ظل التداعيات الكبيرة الناجمة عن الصراع في أوكرانيا، وظاهرة التغير المناخي وغيرها، وهي الأزمات التي عجزت الأنظمة الحاكمة في معالجتها، بينما كان ظهور إرهاصات نحو تغيير ملموس في المنظومة الدولية، التي تتجه نحو قدر من التعددية، سببا رئيسيا في تمرد دولي على تلك الحالة، التي كانت أداة لهيمنة القوى الدولية الكبرى على العالم خلال العقود الماضية.