مع انطلاق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، يبدو غياب 4 قادة من الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن عن الحضور مسألة جديرة بالملاحظة والاهتمام، ليصبح الرئيس الأمريكى جو بايدن هو الوحيد المتواجد، فى إطار مساعى واشنطن نحو استقطاب المزيد من الحلفاء فى المرحلة الراهنة، بعد صعود قوى من شأنها مزاحمتها على قمة النظام الدولي، وعلى رأسها الصين وروسيا، ناهيك عن حاجتها إلى الدعم الدولى فى ظل عودة الصراع بين الشرق والغرب، فى إطار الأزمة الأوكرانية، والتى باتت تمثل تهديدا صارخا للعالم بأسره، جراء تداعياتها الكبيرة، على العديد من القطاعات الحيوية التى تطال الكوكب بأسره، وأهمها قطاعى الغذاء والطاقة.
ولعل غياب قادة روسيا والصين عن القمة الأممية مفهوم إلى حد كبير، فى ضوء معطيات ظاهرية، أبرزها الخلافات مع واشنطن، والتى وصلت إلى حد الصراع، سواء عسكريا كما هو الحال مع موسكو، أو التجارية، وإن توارت قليلا مؤخرا، فى العلاقة مع بكين، إلا أن غياب قادة حلفاء واشنطن التاريخيين (فرنسا وبريطانيا) ربما يثير العديد من التساؤلات، والتى تدور حول مدى قناعتهم باستمرارية القيادة الأمريكية للغرب، وكذلك مواقفهم تجاه خصوم واشنطن، ناهيك عن قناعتهم بالمنظومة الأممية ومدى قدرتها على التعاطى مع المستجدات الدولية، فى ضوء الأزمات المتواترة التى تلاحق العالم فى اللحظة الراهنة، وهو ما يمثل تغييرا، ولو مرحليا، ليس فقط فى شكل النظام العالمى الذى أرسته الولايات المتحدة قبل عقود طويلة من الزمن، وإنما أيضا فى طبيعة المعسكر الغربي، والذى امسك بقيادة واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية.
وفى الواقع، تبدو معضلة الولايات المتحدة، ليست فى مجرد التغيير الكبير المرتقب فى شكل النظام الدولي، مع صعود روسيا والصين، وإنما باتت فى الشكوك الكبيرة بين حلفائها حول قدرتها على استمرار قيادتها لهم، خاصة وأن الأزمات الأخيرة، بدء من الأزمة المالية العالمية، مرورًا بالوباء، وحتى الصراع فى أوكرانيا، لم تقدم واشنطن خلالها الدعم اللازم لهم، وهو ما ليس مجرد منحة، وإنما فى واقع الامر التزاما من قبل قيادة التحالف، بينما اتخذت العديد من الاجراءات التى أثارت امتعاضهم فى السنوات الاخيرة، وعلى رأسها العودة إلى فرض التعريفات الجمركية، بالإضافة إلى تصدير الأزمات إلى مناطقهم الجغرافية، كما هو الحال فى أوكرانيا، والتهديد بالانسحاب من الناتو، وما يترتب عليه من تهديد صريح لهم، مما دفع فرنسا إلى اقتراح التخلى عن الحلف، عبر إنشاء جيش أوروبى موحد.
والمتابعة الجيدة لحقبة الهيمنة الأحادية، ربما تكشف العديد من الحقائق، ربما أبرزها أن القيادة الأمريكية للعالم لم يكن لها أن تتحقق إلا بمباركة الحلفاء فى الغرب، والذين أضفوا غطاء من الشرعية على قراراتها وتوجهاتها، حتى إذا لم تتمكن واشنطن من الحصول على المباركة الأممية، وهو ما تجلى فى أبهى صوره خلال الحرب على العراق، والتى استبدلت فيها الولايات المتحدة الشرعية الأممية، بالتحالف مع أوروبا، سواء عسكريا عبر مشاركة فرنسا وبريطانيا، أو سياسيا عبر الدعم الأوروبي، وهو ما ينطبق على العقوبات التى صدرت ضد خصوم أمريكا، بدء من إيران وكوريا الشمالية وحتى روسيا والصين، تحت العديد من الذرائع، تتراوح بين الديمقراطية وحقوق الانسان وامتلاك أسلحة دمار شامل وغيرها.
وهنا يبدو غياب قادة الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن، وخاصة الأوروبيين منهم، هو بمثابة رسالة واختبار فى آن واحد، فهو رسالة حول إمكانية انفراط عقد المعسكر الغربي، خاصة إذا ما وضعنا فى الاعتبار الأهمية التاريخية لباريس ولندن، باعتبارهما القوى الأبرز تاريخيا وعسكريًا واقتصاديًا فى أوروبا الغربية، خاصة بعدما توجهت واشنطن، إبان حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما نحو الاعتماد على ألمانيا، وتهميشهما إلى حد كبير مما أهان كبرياء تلك القوى التاريخية، بينما يمثل اختبارًا لمدى نجاعة الدبلوماسية الأمريكية فى حشد الدعم الدولى بعيدا عن حلفائها الغربيين الرئيسيين، فى مواجهة روسيا والصين، ناهيك عن كونه يضع العديد من علامات الاستفهام حول مستقبل المنظومة الأممية، وإمكانية تحقيق الإصلاح بها، حتى يمكنها مواكبة الأزمات المستحدثة والتعاطى مع الصراعات الدولية، فى ظل تصاعد الدور الذى تلعبه تكتلات أخرى ذات طابع إقليمى ودولي، من شأنها إضفاء المزيد من الشرعية على القوى الدولية الصاعدة، على غرار بريكس.
وهنا يمكننا القول بأن اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة باتت شاهدا جديدا على تغيير كبير فى النظام العالمي، فى ظل غياب قادة تتمتع دولهم بمزايا استثنائية فى المنظومة الأممية، مما يعكس اعترافا ضمنيا باقتراب النهاية لحقبة الهيمنة الأحادية، وكذلك الحاجة إلى إصلاحات جوهرية فى النظام الدولى ومؤسساته فى المستقبل القريب.