أعادت أحداث غزة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأعادت التأكيد على حجم وقدرة الدولة المصرية والتحديات التى واجهتها ولا تزال على مدى عشر سنوات وأكثر، وقد مثل العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى، تطورا نوعيا فى المنطقة بشكل جديد، وبالرغم من تكرار جولات الصراع على مدى السنوات العشر الماضية، فقد تجاوز العدوان الأخير الفعل الأساسى، إلى مخطط أوسع يرمى إلى خطوات أبعد تستهدف تهجير الفلسطينيين ونقل العبء إلى جهات وأطراف أخرى، وهو ما بدا تطورا استراتيجيا، واجه انتباها وإدراكا أعمق من قبل الدولة المصرية، الطرف الأكثر امتلاكا للمعرفة والتفاصيل بمعطيات قضية مزمنة تكاد تخرج عن السيطرة.
من ناحية أخرى، فإن الحرب لم تكن مفاجئة، لكنها اتخذت مسارا آخر بعد أن شن الجيش الإسرائيلى حرب إبادة شاملة، ضد المدنيين مع حصار شامل لغزة، تحت حماية ودعم من الولايات المتحدة، وتواطؤ غربى واضح، وسط تبنى للرواية الإسرائيلية التى اعتبرت العدوان الإسرائيلى رد فعل على هجمات فلسطينية، مع تجاهل لتفاصيل وتداعيات واضحة منذ شهور، ضد الفلسطينيين.
وبدا الاحتلال يتصرف بهستيريا وانتقام، مع إطلاق تصريحات من مسؤولين ومتحدثين لجيش الاحتلال «تطلب من الفلسطينيين أن يتركوا غزة إلى سيناء»، وبالرغم من تراجع الاحتلال عن التصريحات المختلة فقد كشفت عن مخطط واضح يبدو استكمالا لبدايات الحركة الصهيونية بهدف تخيير الفلسطينيين بين الموت تحت القصف الإسرائيلى أو النزوح خارج أراضيهم، ضمن مخططات سابقة حملت أسماء متعددة، كانت فيها الدولة المصرية واضحة تجاه التحذير من هذه المحاولات وخطرها على ثوابت القضية الفلسطينية والحق الفلسطينى بجانب أنها تهديد واضح للأمن القومى المصرى والعربى.
وكانت الدولة المصرية هى الأكثر إدراكا لخطورة هذا الطرح، وتصدت له بحسم وخطوط حمراء واضحة، وأكد الرئيس عبدالفتاح السيسى أن مصر لن تسمح بتصفية القضية على حساب أطراف أخرى، وأنه «لا تهاون أو تفريط فى أمن مصر القومى تحت أى ظرف، وأن الشعب المصرى يجب أن يكون واعيا بتعقيدات الموقف ومدركا لحجم التهديد»، وأن التصعيد الحالى خطير، والسلام العادل والشامل، القائم على حل الدولتين، هو السبيل لتحقيق الأمن الحقيقى والمستدام للشعب الفلسطينى وللمنطقة.
موقف مصر ينطلق من إدراك واضح لحجم الخطر، وحذر من أن ترك العدوان بهذا الشكل، يهدد باتساع نطاق الصراع، إقليميا بما يشكل خطرا على الإقليم والعالم، فى حال انفجار الأوضاع.
رسائل مصر واضحة باعتبار القاهرة هى الطرف الأجدر والأكثر إدراكا لتفاصيل ومفاتيح القضية، والأقدر على قراءة الملف، ومأزق كل طرف من الأطراف، فى الاحتفال بالعيد الخمسين لانتصار أكتوبر والعبور، كان التأكيد أن القوات المسلحة المصرية قادرة على حماية تراب مصر، وأنها - بحكم التجارب والحروب - قوة رشيدة تحمى، ولا تعتدى أو تهدد، تضمن السلام وتسعى إليه من منطلق القوة، وأن هذه الحرب لا رابح فيها، وأن مصر لديها الاستعداد لتسخير كل إمكانياتها وقدراتها من أجل إنهاء هذه الأزمة.
ومن أهم رسائل مصر أنه لا بديل عن وقف هذا العدوان وأن التدمير طريقة أثبتت فشلها، ولم ولن تنجح فى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم أو تصفية قضيتهم.
من جهتها حرصت مصر على إبقاء معبر رفح مفتوحا، ووجه الرئيس بتقديم كل المساعدات عبر المنفذ، مع تخصيص مطار العريش لتلقى المساعدات، وكانت المساعدات المصرية الغذائية والطبية هى الأكبر، وواجهت مصر تعنتا جديدا عندما رفض رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو إدخال المساعدات لإغاثة غزة، أعلنت مصر أن التصعيد سيواجه بتصعيد، وأن على الأطراف الدولية تحمل مسؤولياتها، وهو ما أسفر عن وقف قصف الجهة الفلسطينية من المعبر، خاصة وقد وصل إجرام الاحتلال إلى قصف مستشفى المعمدانى بغزة، والذى مثل وصمة عار فى سجل الاحتلال وأثار ردود أفعال لدى الرأى العام العالمى ضد الرواية الإسرائيلية.
وأعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى استعداد مصر للقيام بأى جهد من أجل التهدئة، واستعدادها لاستضافة أطراف إقليمية ودولية لبحث الأحداث ومسارات السلام، ومستقبل القضية الفلسطينية، واستجابت أطراف كثيرة للدعوة، إلى «قمة القاهرة للسلام»، التى تنطلق غدا السبت فى العاصمة الإدارية، لتكون خطوة لوقف الحرب والانطلاق إلى آفاق أكبر للسلام.
ويتوقع أن تحقق القمة نتائج لوقف العدوان، خاصة أنه بالرغم من مرور ما يقرب من أسبوعين فإن العدوان لم يحقق أكثر من دمار، وقتل مدنيين، وهو ما قد يدفع للمزيد من الردود الأكثر عنفا، لأنه يستحيل قتل كل الفلسطينيين أو دفع الشعب كله للمغادرة، وهو ما يسقط غرور اليمين الإسرائيلى.
خطوات القاهرة الحاسمة، وخطوطها الحمراء، وتحركاتها تكشف عن استراتيجية لوقف الصراع، وتعيد التأكيد على أن الدولة الفلسطينية مفتاح الحل، وهو ما تأكد فى كل لقاءات واتصالات تلقاها الرئيس، مع رؤساء وقادة الدول الكبرى، وآخرها لقاء الرئيس السيسى وملك الأردن عبدالله بن الحسين والاتفاق على ضرورة حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة فى دولته المستقلة، ورفض سياسات العقاب الجماعى ودعوات تهجير الفلسطينيين من أراضيهم إلى مصر أو الأردن.
نحن نتحدث عن دور مصرى أو تأثير إقليمى، تبنيه سياسات متواصلة من خلال تحركات المؤسسات الدبلوماسية والمعلوماتية التى أثمرت عن تفكيك الكثير من الملفات المعقدة، وتكشف عن نفوذ رشيد وقوة تدفع نحو السلام القائم على توازن دقيق، يعتبر القضية الفلسطينية هى قضية مصر الأولى، و لا بديل عن حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة