لجأ وكيل حكمدار الغربية إلى «حسن الفرارجى» ليدله على بيت إبراهيم الشهاوى، الذى هو فى الحقيقة عبدالله النديم، بعد أن أنكر عمدة قرية الجميزة بمحافظة الغربية وجود شخص بهذا الاسم، وكان «الفرارجى» مخبرا سريا على المعاش، ومن أهل «الجميزة»، وهو الذى أبلغ عن «النديم» المختفى منذ 9 سنوات، عقب فشل الثورة العرابية، وكان خطيبها ومحرضها الجماهيرى.. «راجع ذات يوم 2 أكتوبر 2023».
يذكر الدكتور على الحديدى فى كتابه «عبدالله النديم- خطيب الوطنية»: «استعان البوليس بالفرارجى فدلهم عليه، وأحس «النديم» بالحركة غير العادية خارج الدار، فأوجس فى نفسه خيفة، وأراد الانتقال إلى دار أخرى، وحين صعد إلى سطح المنزل صوب إليه الجنود بنادقهم من الدور المجاورة، وتيقن أنه مقبوض عليه لا محالة فعاد أدراجه، ونزل وفتح باب الدار، وواجه البوليس فى جلد وشجاعة وسلم نفسه».
يذكر «النديم» فى العدد الأول من مجلته الأستاذ «24 أغسطس 1892»: «عندما دلت الحكومة على لم تبعث رجلا فظا للقبض على، بل بعثت رجلا مهذبا هو محمد أفندى فريد، وكيل حكمدارية الغربية إذ ذاك، فاشتد فى أول الأمر، وأرد أن يكتفنى فلما ذكرته بأنى مذنب سياسى ولا مجرم جنائى، انصاع لأفكارى، وتلطف بى وتساهل معى، ومكننى من دخول البيت لألبس ثيابى، وأوصى أهل البيت بما يفعلونه بعد توجهى، وعندما وصلت معه إلى مركز السنطة لم يضعن فى السجن، بل وضعنى فى محل العساكر، وفرش لى كبود عسكرى، وأمر لى بماء أتوضأ لأصلى العشاء ثم أخذ خادمى واستنطقه وحده بما اضطره للإقرار ببعض من آوونى وأكرمونى فى الاختفاء».
يضيف «النديم»: «استحضرنى وكيل الحكمدار إليه آخر الليل «صباح 3 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1891»، وحاول أن أعترف له بأن أحدا ممن ذكرهم خادمى كان يعرف حقيقتى، فأكدت له عدم معرفة واحد منهم لى، وكانت همته متجهة لإقرارى بمعرفة سعادة منشاوى باشا، فعز عليه ذلك، وامتلأ عجبا عندما قلت له إنى لم أعرف المنشاوى إلى الآن، فقال لى كيف ذلك مع شهرتكما، فقلت: الشهرة لا تقتضى بالتعارف ما لم يكن هناك اختلاط وصحبة، ولا صحبة بيننا، فتكلم معاون البوليس بما هو أهله، وأعرضت عن ذكره لئلا ألوث الصحيفة بهجر القول».
كانت قصة «المنشاوى» مع «نديم» دراما كبيرة، ويذكر «أبوالمعاطى أبوالنجا» تفاصيلها فى كتابه الروائى عن النديم «العودة إلى المنفى»، مؤكدا أن شيخ الطرق الصوفية «شحاتة القصبى» هو الذى دل النديم إلى الاختفاء عند «المنشاوى باشا» فى «القرشية»، فالباشا فضلا عن معرفته بالنديم، من أنصار الثورة العرابية، وحين حوكم مع «العرابيين» صدر عفو عنه لأنه أنقذ عددا من الأوروبيين من مذبحة كادت تودى بحياتهم ونقلهم جميعا إلى عزبته، وفى حمايته.
يضيف «أبوالنجا» أن المنشاوى باشا عاش كجزيرة محاصرة وشامخة بعد فشل الثورة، عاش أيضا يتسلى بزراعة أرضه الواسعة، وبمجلس علمى وأدبى، وفكر «النديم» أن يحتل ركنا فيه، واستقبل «المنشاوى» ذات مساء فى قصره رجلا يرتدى ثياب أهل اليمن، وينطق لهجتهم، واسمه الشيخ على، ثم أصبح الشيخ «على اليمنى»، وأصبح ركنا أساسيا فى المجلس الأدبى والعلمى للمنشاوى باشا، وذاعت شهرته إلى حد أنها وصلت إلى رياض باشا، رئيس الوزراء، واستمر هذا الأمر 5 أشهر، ثم غادر «النديم» القرشية بحجة سفره لأداء فريضة الحج.
فى صباح 3 أكتوبر 1891 انتقل «النديم» إلى نيابة طنطا للتحقيق معه، وكان رئيسها قاسم بك أمين «الكاتب المعروف ومؤلف كتاب تحرير المرأة»، ويثنى «النديم» عليه قائلا: «اعتنى بشأنى وأرسل لى خالد أفندى الفوال لينظر حالة السجن أنظيف هو أم لا، وهناك تضييق أو تعذيب، فلم أطلب منه أكثر من تنوير المحل ليلا، ورفع باب الملقف ليدخل الهواء، ففعل وأمر أن يرش فى المحل حمض الفنيك كل يوم، وترفع مستيلة البراز كل يوم مرتين أو ثلاثا، ولا أمنع من شرب القهوة والدخان إن أردت، وزاد الفضل بقوله: إن كان معه نقود أولا، واستحضروا له ما يطلبه على حسابى، وقال لى: أنت حر فى كلامك فقل ما شئت، فلم يسمع منى أن أحدا من الناس آوانى على أنى عبدالله نديم المطلوب للحكومة».
احتجزت نيابة طنطا «النديم» حتى تقرر مصيره الجهات العليا فى القاهرة، وقبض على الذين أدلى خادمه بأسمائهم، واعترف بأنهم آووه وساعدوه فى الاختفاء، وأودعوا السجن جميعا، أما زوجة «النديم» فأرسلوها إلى أهلها بالمحلة الكبرى، وفى جلسة مجلس الوزراء، برئاسة عبدالرحمن باشا رشدى، يوم 12 أكتوبر 1892، تقرر إبعاد «النديم» إلى الشام، والإفراج عن المقبوض عليهم، ومنحه 150 جنيها ليستعين بها فى منفاه على شؤون الحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة