تبدو زيارة رئيسة مفوضية الاتحاد الاوروبي أورسولا فون دير لاين للقاهرة امتدادا للزيارات المتتالية التي تواترت على القاهرة في الأسابيع الماضية، وتحديدا منذ اندلاع أزمة غزة، والتي تعكس إدراكًا عالميا بأهمية الدور المصري، في اللحظات الهامة والتاريخية، التي يشهدها الاقليم بأسره، وبالأخص فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إذا ما نظرنا إلى دورها التاريخي من جانب، وتحركاتها الحثيثة في الحاضر، والتي تجلت منذ اللحظة الأولى للعدوان الإسرائيلي الوحشي على القطاع، بدءً من دعوتها لعقد قمة القاهرة للسلام، بالإضافة إلى ضغوطها الكبيرة لتمرير المساعدات الإنسانية للسكان المحاصرين بالقصف، ناهيك عن دورها في عبور الأجانب ومزدوجي الجنسية إلى أراضيها تمهيدا لعودتهم إلى بلدانهم.
ولعل الحديث عن التوافق المصرى مع أوروبا الموحدة، يعكس بجلاء نجاعة الدبلوماسية المصرية، في صناعة الشراكات ذات نطاق متسع، جراء سياساتها القائمة على تعزيز دورها ليتجاوز الإقليم الضيق، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد، ربما أبرزها "الثلاثية" التي دشنتها مع اليونان وقبرص، و"ثنائيتها" مع باريس، ناهيك عن تقاربها الملموس مع دول أوروبا الشرقية، وهو ما يعكس حالة من الشراكات الجزئية، والتي تفضي إلى ثقة جمعية على مستوى الاتحاد، من شأنها تعزيز الدور المصري، في خدمة القضايا الإقليمية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية، والتي تحظى بحالتها المركزية سواء مصريًا أو عربيا أو إقليميًا.
ويعد تحقيق التوافق مع أوروبا، فيما يتعلق بأزمة العدوان على غزة، بمثابة اختراق كبير، في ضوء التغيير الكبير في المواقف والأولويات التي تبنتها دول القارة لحظة اندلاع العدوان، والتي دارت في معظمها حول "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بينما دعت أكثر الدول اعتدالا إلى التهدئة، وهو الخطاب الذي تغير تدريجيا على العديد من المسارات، أولها فيما يتعلق باللحظة الراهنة، عبر بزوغ دعوات لوقف إطلاق النار، ثم إدانة الانتهاكات الاسرائيلية، وحتى رفض التهجير القسري، والذي يمثل جريمة دولية متكاملة الأزمات طبقا لمبادئ القانون الدولي.
إلا أن الإنجاز الأهم الذي حققته الدبلوماسية المصرية، يتجاوز في جوهره اللحظة الراهنة، والمتمثلة في العدوان الوحشي على قطاع غزة، وما تخلله من انتهاكات كبيرة، نحو إعادة القضية الفلسطينية برمتها إلى صدارة أولويات الأجندة الدولية، وهو ما يبدو في حديث رئيس الوزراء الأسباني بيدرو سانشيز عن مناقشة الاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما يمثل انتصارًا كبيرًا للقضية، في اللحظة التي يسعى الاحتلال لاستغلالها لتصفيتها عبر تهجير السكان من مناطقهم لتجريد الدولة المنشودة من مواطنيها، مما يساهم في وأدها قبل ميلادها، عبر تجريدها من أهم أركانها وهو شعبها.
وفي الواقع، يعد نجاح الدولة المصرية في خلق أرضية مشتركة مع أوروبا الموحدة، سواء فيما يتعلق بالعدوان على غزة أو القضية الفلسطينية برمتها، إنجازا كبيرا في ضوء قدرتها على اختراق أحد أهم نقاط القوة لدى الاحتلال الإسرائيلي، والتي تتمثل في الدعم غير المحدود من قبل حلفائها الغربيين، عبر تغيير مواقفهم، وهو ما يمثل ثمرة مهمة لجهود كبيرة بذلتها الدبلوماسية المصرية على مدار سنوات، ربما أبرزها تدشين الشراكات الجزئية، على النحو السالف الذكر، كما أنه في الوقت نفسه يمثل نتيجة لجهود كبيرة، منحت الثقة للجانب المصري فيما يتعلق بالعديد من الأبعاد الأخرى، منها البعد التنموي، والذي تحول إلى أحد أركان إدارة القضايا الدولية، في ظل لجوء دول القارة العجوز إلى القاهرة لسد جزء من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، ناهيك عن كفاءتها الكبيرة في إدارة الأزمات، على غرار الإرهاب، واحتواء الهجرة غير الشرعية والتي تمثل كابوسا أوروبيا في اللحظة الراهنة.
فلو نظرنا إلى قضية الهجرة غير الشرعية، نجد أن ثمة تقارب استطاعت أن تحققه الدبلوماسية المصرية مع أوروبا من خلالها، فيما يتعلق بمسألة رفض دعوات الاحتلال الإسرائيلي المشبوهة لتهجير المواطنين الفلسطينيين من أراضيهم، خاصة بعدما دعا أعضاء بالكنيست إلى ترحيلهم إلى القارة العجوز، وهو ما يشكل ضغوطا إضافية على دولهم، في ظل تدفق الألاف القادمين من أوكرانيا بالإضافة إلى أخرين من مناطق عدة بالشرق الأوسط، وهو ما يمثل نقطة انطلاق مهمة لتحقيق توافق، مع حلفاء الدولة العبرية، حول رفض مخططها، وهو ما يمثل هزيمة إضافية للاحتلال.
وهنا يمكننا القول بأن التوافق الدولي الذي تحقق على يد الدولة المصرية فيما يتعلق بقضية غزة، لا يقتصر في تجاوزه على الحدود أو الأقاليم أو الثقافات، وإنما بات متجاوزا للمواقف، في ظل نجاحها في استقطاب قوى معروفة بانحيازها لإسرائيل، لدعم ثوابت القضية الفلسطينية، ناهيك عن تحويل مواقفها تجاه العدوان والمساعدات الإنسانية، وهو ما يعكس نجاعة كبيرة في التعامل مع الملفات الدولية الهامة، خاصة تلك المرتبطة بمناطقها الجغرافية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة