سافر مندوب وزير الحربية، صادق يحيى باشا، إلى السودان يحمل رسالة إلى الضباط والجنود المصريين فى السودان يوم 28 نوفمبر، «مثل هذا اليوم عام 1924»، يأمرهم بالعودة إلى مصر، وأبلغهم بأن هذا أمر من الملك فؤاد، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من كتابه «فى أعقاب الثورة المصرية.. ثورة 1919».
يقدم «الرافعى» تفاصيل هذا الحدث، ونعرف فيه جانبا من الإجابة على «هل كانت مصر والسودان كيانا واحدا فعليا قبل ثورة 23 يوليو 1952؟ وهل كان للملك والحكومة فى مصر سلطة حكم فعلية على السودان؟ أم أن الاحتلال البريطانى لمصر كان هو الذى يمارس سلطته الفعلية على السودان؟».
قصة الحدث كما يرويه «الرافعى» تبدأ من يوم الأربعاء 19 نوفمبر عام 1924، بإطلاق 5 رصاصات على سردار الجيش المصرى وحاكم السودان العام «السير لى ستاك باشا»، وهو عائد فى سيارته من مكتبه بوزارة الحربية إلى داره بالزمالك، وتوفى يوم 20 نوفمبر متأثرا بجراحه، ووفقا لـ«الرافعى»: «توقع الناس للحادث عواقب خطيرة، إذ كان هدفه شخصية من أكبر شخصيات إنجلترا السياسية والعسكرية فى مصر والسودان».
شيعت جنازة السردار صباح السبت 22 نوفمبر 1924، وحسب «الرافعى»: «فى الساعة الخامسة من مساء هذا اليوم، ذهب اللورد اللنبى المندوب السامى البريطانى إلى دار رئاسة مجلس الوزراء فى مظاهرة عسكرية، يتقدمه مائتان وخمسون جنديا بريطانيا من حملة الرماح، ويتبعه مثل هذا العدد، وقابل سعد زغلول رئيس الحكومة، وقدم إليه إنذارين محررين باللغة الإنجليزية، بعد أن تلا عليه نصهما، وشمل الإنذار الأول سبعة مطالب للحكومة البريطانية، ونص المطلب الخامس على «أن تصدر فى خلال أربع وعشرين ساعة الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصرى من السودان».
هدد «اللنبى» بأنه إذا لم تستجب حكومة سعد لهذه المطالب فى الحال، ستتخذ الحكومة البريطانية على الفور التدابير المناسبة لصيانة مصالحها فى مصر والسودان، ووافقت حكومة سعد على أربعة مطالب يصفها «الرافعى» بالشكلية، لكن «أللنبى» رفض، فتقدم سعد باستقالة حكومته وأعلنها يوم 24 نوفمبر أمام مجلسى النواب والشيوخ، وكلف الملك فؤاد، أحمد زيور باشا بتشكيل حكومة جديدة، ووفقا لـ«الرافعى»: «قبلت وزارة زيور المطالب البريطانية جميعها، وكان أخطرها شأنا جلاء الجيش المصرى عن السودان».
يؤكد «الرافعى» أن اللواء هدلستون باشا، نائب السردار ونائب الحاكم العام، أصدر أمرا يوم 24 نوفمبر 1924 إلى رؤساء وحدات الجيش المصرى برحيل الضباط والجنود إلى مصر بدون ذخيرة، ويقول: «أبى ضباط وجنود الجيش المصرى أن يغادروا مراكزهم إلا إذا تلقوا أمرا بذلك من الحكومة المصرية، وكان على رأس هذه الحركة ضابط شهم هو القائم مقام أحمد رفعت بك قائد المدفعية»، يضيف «الرافعى»: «حاصر الجنود الإنجليز ثكنات الجيش المصرى، وحاولوا الاستيلاء على ذخيرتهم، فردهم عنها الضباط والجنود المصريون وامتنعوا فى ثكناتهم ورفضوا السفر».
وجدت حكومة «زيور باشا» نفسها أمام مأزق، فعهدت إلى وزير الحربية صادق يحيى باشا أن يبعث برسالة إلى ضباطه وجنوده بوجوب الإذعان لهذا الأمر، ووفقا لـ«الرافعى»: «حمل هذه الرسالة إليهم البكباشى أمين هيمن، وأقلته طائرة حربية، ووصل الخرطوم يوم 28 نوفمبر «مثل هذا اليوم» 1924، فأبلغ الضباط الرسالة، وأبلغهم بأن الملك يأمرهم بالانسحاب، فأذعن الضباط والجنود للأمر آسفين محزونين، وجلا الجيش المصرى عن السودان فى أيام 29 و30 نوفمبر، وثانى ديسمبر 1924».. يعلق «الرافعى»: «كانت مأساة قومية أعادت إلى الأذهان مأساة قرار الحكومة إخلاء السودان فى عهد الخديو توفيق سنة 1884، بل هى أشد منها، لأن جلاء الجيش المصرى عن السودان سنة 1924 كان معناه إخلاءه للسيطرة الإنجليزية والاستعمار البريطانى».
يذكر «الرافعى»، أن الضباط والجنود السودانيين أبدوا تضامنا رائعا مع إخوانهم المصريين، وتجلى ذلك فى بلوكين من الأورطة الحادية عشرة السودانية بالخرطوم إذا غادر الجند السودانيون ثكناتهم يوم 27 نوفمبر، واتجهوا شرقا لمنع إخراج الجنود المصريين من ثكناتهم، فتصدت لهم الجيوش البريطانية بالقرب من مستشفى الجيش المصرى، ثم وصل هدلستون باشا، نائب السردار، وأنذرهم بالرجوع إلى ثكناتهم، فلم يذعنوا، فأمر جنوده من البريطانيين بإطلاق النار عليهم، فأجاب الجند السودانيون بالمثل، وقتل منهم عدد كبير، وقتل ثلاثة ضباط من الجانب البريطانى.
فى صباح 28 نوفمبر، امتنع الجنود السودانيون فى مستشفى الجيش المصرى، فأطلق الإنجليز قنابل مدافعهم على بناء المستشفى ودمروه تدميرا، ويؤكد «الرافعى»، أن هذا المستشفى كان من أكبر المستشفيات إذ كان به 400 سرير، وقتل من السوادنيين بالمستشفى الضابط الملازم أول «عبدالفضيل ألماس» وخمسة عشر جنديا، ورفض بعض الضباط السودانيين البقاء فى السودان بعد جلاء الجيش المصرى، وجاءوا إلى مصر وانتظموا فى سلك الحكومة المصرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة