- قراءة فى نتائج الانتخابات ورسائلها للدولة والأحزاب والمقيمين فى الماضى من تيارات المعارضة
ربما لم تحمل الانتخاباتُ الرئاسية أيّة مُفاجأة للغالبية فى نتيجتها؛ لكنها حملت ما هو أكبر فى الأرقام والسياق والدلالات. وسيكون لها ما بعدها على صعيد البيئة التشاركية المفتوحة، وعلاقة مُكوّنات المشهد السياسى ببعضها، والالتزامات التى رتّبتها على الأحزاب والنُّخب السياسية: مَن كانوا مُحايدين تجاهها قبل الذين شاركوا فى المنافسة أو دعموا أحد المُتنافسين. كان كثيرون يتحسَّبون من أن تؤول إلى مُمارسةٍ باهتة، وآخرون يُراهنون على إحراج الدولة والمُرشَّحين، وأكثر منهم يتمنَّون فى قرارة نفوسهم لو أنها تُترجِم انصرافَ الناس عن الشأن العام. وما حدث أن الناخبين قدَّموا للجادين مُكافأةً فاقت توقُّعاتهم، وللسلبيين صدمةً لم تعبُر على أسوأ كوابيسهم، وصاغوا رسائلَ مُهمَّة وواجبة الدرس والاستيعاب من كلِّ الأطراف. والدهشة التى حملتها الصور من لجان التصويت، زادت ولم تنقص مع إعلان الحصيلة النهائية للمشاركة ونوعيّتها، وصار لِزامًا على المعنيِّين بالشارع أن يفتحوا كُتبَ الأيديولوجيا من جديد، وأن يستذكروا ما فاتهم على إيقاع الجمهور؛ إذ لا تحزُّبَ ولا تسييس ولا فاعليّة إن توقّف السياسيّون بينما يتحرَّك الشعب.
المنافسةُ لم تكن سهلةً على الإطلاق، سواء مع رئيسٍ فى الحُكم ولديه خبرةٌ وسابقةُ أعمالٍ ورصيد جماهيرى، أو فيما بين الثلاثة الحزبيِّين. وقد قلتُ فى مقالٍ سابق إن «الأصوات غير الصحيحة» ستكون أهم معيارٍ فى تقييم التجربة؛ ربما بأكثر من دلالة نسبة المُشاركة وحظِّ كلّ مُرشَّح منها. وعِلّةُ ذلك أن سلامةَ التصويت تكشف عن قناعةٍ بالعملية الجارية، وقبولٍ لخريطة التنافس؛ لجهةِ أنها تُلبِّى الحدَّ المعقول من تطلُّعات الناخبين؛ والأهم انتفاء فكرة الحشد المصنوع وهندسة السباق خارج الصناديق؛ إذ حتى لو دُفِع الناسُ إلى اللجان بالعصبيّة أو الخواطر، أو غير ذلك من ترهيبٍ وترغيب؛ فليسوا مُضطرّين لأن يُصوِّتوا على هوى أحد، بل ربما يكون ذلك حافزًا لهم على الإبطال، وفى الحدِّ الأدنى أن يذهبوا إلى مُمارسةٍ عقابية. ومعنى أن تتضاءل حصَّة البطاقات الفاسدة، ويُحسَم السباق بمُعدّلاتٍ تُكافئ الأوزان النسبية الواقعية، هو أن إرادة الأفراد لم تُسرَق منهم قبل أن يستتروا بحجاب الاقتراع، وأن دعاوى المُقاطعة أو التعبير السلبى لم تلقَ قبولاً يُذكَر، ولم تُفصِح عن شىءٍ إلَّا أنّ العوام تجاوزوا بعض دوائر النخبة، وينحازون للتدرُّج وإنضاج السياسة بالتراكُم الطويل، كما لم تعُد المُناكفات الرومانسية مسارًا مقبولاً ولا مُقنعًا؛ بقدر ما تُلخِّص حالةَ انفصال عن اللحظة الزمنية وخروجًا ساذجًا من الملعب. وتلك مُلاحظة يجب على الجميع التوقُّف أمامها طويلاً.
جَردةُ الحساب فيها من الدلالات ما يُغنى عن كلّ قَولٍ. سجَّلت نسبة الحضور 66.8 % من قاعدة الناخبين؛ كأعلى مُشاركةٍ فى أيّة مُنافسة انتخابية مصرية، والأقرب إليها برلمان 2012 بنحو 54 %، ثمّ أوّل رئاسيات بعد يناير بمتوسط لجولتيها لا يتجاوز 47 %. ومن جملةٍ تُقارب 45 مليون ناخب: حصد السيسى قرابة 40 مليونًا، ثم حازم عمر وصيفًا بما يُناهز المليونين، وفريد زهران بـ1.77 مليون، وأخيرًا يمامة بأدنى قليلاً من 900 ألف؛ لكنّ نسبة الأصوات الباطلة لم تتجاوز 1.1% من المُصوّتين، وهى بذلك أقلُّ ممّا كانت عليه فى كلّ الاستحقاقات السابقة. إنها سباقٌ قياسىّ فى أرقامه؛ بالنظر إلى تجارب التعدُّد منذ 2005، المُشاركة أعلى والإبطالُ أخفضُ والفائز أكثر حضورًا إلى حدٍّ يُلامس الإجماع. قبل عقدين كانت نسبة المُشاركة 23 % بسبعة ملايين صوت، واليوم ثلاثة أضعافها فى النسبة وستّة أضعافٍ تقريبًا فى العدد؛ وبالقياس إلى 2012 بكل ما فيها من استقطابٍ ومُزايدةٍ وتزييف عقائدى، تتفوُّق نُسخة 2024 أيضًا؛ ما يُشير إلى تدرُّجٍ صاعدٍ لا يُمكن إغفالُه، ويجعل من التجربة الأخيرة قاعدةً صالحةً لتعلية بناءٍ سياسى جديد، يرتكز على قاعدتها الصلبة.
كمالةُ ما فات، أن الهيئة الوطنية للانتخابات أعلنت عدم تلقّيها أيّة تظلُّمات من المُرشَّحين على أعمال اللجان العامة ومحاضر الفرز؛ ثم انقضت مُهلةُ الطعن وظلَّت الدفاتر بيضاء. وإزاء التفاوت الواضح فى الأوزان، وفوارق الأرقام من لجنةٍ لأُخرى، وفى المحافظة الواحدة أحيانًا؛ فإن انتظام الجدول الزمنى للعملية من دون مآخذ أو شكايات؛ يُؤكِّد أن الأداء العام كان مُقنعًا للمتنافسين وحملاتهم، وإقناع هؤلاء صعبٌ بطبيعته، وكثيرًا ما تأخذهم حمية السباق إلى الشكوى بسببٍ ومن دون سبب. وأن يصمتوا عن تفعيل حقِّهم القانوني؛ فإنهم يرتضون ما عاينوه مُعاينةً حاضرة، فى مراكز الاقتراع وداخل اللجان وعلى طاولات الفرز والحصر العددى. لكنَّ الإشارة التى لا تقلُّ أهميّة؛ أنهم يخلعون عباءة الاستقطاب والمُزايدة وخِفّة القول والفعل، ويلبسون حلَّةً من الوقار والرصانة ونُضج الخطاب والمُمارسة؛ إذ لا حاجة لادّعاء ما لم يتوافر عليه دليل، ولا بطولة فى تخليق شمّاعة تصرف النظر عن طبيعة الإخفاق، بدلاً من استقراء فواعل المشهد، ورصد الثغرات، واقتراح بدائل عملية لتحسين الأداء مُستقبلاً.
قد يُحاول البعضُ الإيحاء بأنها كانت مُنافسةً من بيئةٍ واحدة. لكنّ وجهة النظر الأُخرى لديها ردود منطقية: «الوفد» حزبٌ عريق ولم يكن جزءًا من مشهد الحكم بعد 30 يونيو؛ حتى لو انحاز لجانب الدولة فى مراحل ضاغطة، طبعتها معركةُ الإرهاب بطابعٍ وجودى، وكان رئيسه ومُرشَّحه عبدالسند يمامة يخوض السباق بإيمانٍ ظاهر، رغم الخِفَّة والانتقادات التى يُمكن إثباتها بحقِّه؛ حتى أنه تورَّط أحيانًا فى خطاباتٍ شعبوية أقرب للهجاء السياسى منها لطرح بديلٍ عملى وعقلانى. أمَّا «الشعب الجمهورى» فإنه أحد إفرازات الثورة على الإخوان؛ لكنه ليس ظهيرًا عضويًّا للسلطة فى إطار تحالفٍ مُعلَن، وقد اختارت الأخيرةُ أن تكون مُستقلَّةً من دون رافعةٍ حزبية. وأخيرًا «المصرى الديمقراطى» وهو من أعمدة المُعارضة الحالية، وما زال عضوا أصيلاً فى «الحركة المدنية» رغم الشِّقاق والتلاسُن؛ لكنه لم ينصرف عن المشاركة السياسية فى أشدِّ فترات الساحة جفافًا أو تضرُّرًا من تحدِّيات ما بعد يونيو؛ فكان حاضرًا فى برلمان 2015، كما كان فى 2011 قبله وفى 2020 بعده. وإن افترضنا أنَّ واحدًا من الثلاثة كان يتلاقى مع الدولة فى إخراج الانتخابات فى جوٍّ هادئ، فليس هناك ما يُجبِر الآخرين على ذلك، وخصوصًا فريد زهران الذى لا تستقيم تجربته الحزبية والشخصية مع الصمت، ولن يُغامِر بإهداء أصدقائه، الذين صاروا خصومًا، ورقةً إضافيّة لوَصْمه والتهجُّم عليه، وقد بادروا إلى ذلك سابقًا من دون أسباب منطقيّة أو أخطاء ظاهرة.
لا عاقلَ كان يتخيَّل أن يصير السباقُ إلى نتيجةٍ مُغايرة. ما زال السيسى مُتمتِّعًا بهالةٍ من أثر دوره الإنقاذى فى مواجهة الأُصوليّة العنيفة بالعام 2013، ثم بمشروعٍ نهضوىٍّ أنجز قدرًا كبيرًا منه فى السنوات العشر الماضية، وهو برنامجٌ عريض يُلاقى قبولاً من قطاعاتٍ شعبية واسعة؛ حتى لو انتقده آخرون فى شقِّ الأولويّات، وأخيرًا فإن المُعضلة الاقتصادية الراهنة مُستورَدة فى أغلبها، ويعرف الناس ذلك بقدر ما يعرفون أنه لا أحدَ يملك عصا سحريّةً لتجاوزها؛ ثمَّ جاء انفجار «غزّة» ليُضيف أبعادًا جيوسياسيّة وأمنيّة إلى عوامل الفرز والتقييم، لا سيّما إن جمعناه إلى رُزمة المخاطر غربًا وجنوبًا وفى منابع النيل. وإلى ذلك، كانت خريطةُ التنافس المُقترحة أقلَّ من أن تُنتِج نِدًّا قادرًا على خَوض المباراة لآخرها، ليس فى الثلاثة الذين ترشَّحوا فعليًّا فقط؛ إنما فى كلِّ الأسماء التى تردَّدت منذ البداية وأخفق بعضُها فى عبور العتبةِ الانتخابية، أو تخلَّى عن الترشُّح استجابة لرغبةٍ حزبيّة كما فى حالة جميلة إسماعيل، وربما فى غيرهم ممَّن فكّروا فى الأمر ولم يضعوه موضعَ التنفيذ أو المُحاولة. وعلى هذا المعنى كانت النتيجة مُتوقَّعة بأربعةِ مُرشَّحين، أو بأربعين، وأقصى ما كان يُمكن تصوُّره أن يُعاد توزيع الكُتلة التى تقاسمها الثلاثة على أىِّ عددٍ آخر، ربما دون أن تختلف نسبةُ الفائز الحالى أو تعداد ما جناه من أصوات.
السمةُ الأبرز للاستحقاق الرئاسى الأخير أنه أُدِير فى حيِّز الأيديولوجيا؛ وإن لم يرفعها عَلَنًا أو يتَّخذها عنوانًا أصيلاً للمُنافسة. السيسى من ناحية خبرته المهنية وبرنامجه العملى، يُمثِّل تصوُّرًا من أطياف الوسط مع دور فاعل للدولة فى المجالين الاقتصادى والاجتماعى، و«الوفد» حالة ليبرالية كلاسيكية وإن بدا بريقُها خافتًا، و«المصرى الديمقراطى» و«الشعب الجمهورى» يتقابلان من اليسار واليمين فى نقطةٍ وسيطة، مع فروقٍ طبيعية فى النظر لموقع الدولة، وفى طبيعة السوق وأبعاد الدور الاجتماعى. قد لا ينشغل الناخبون بتلك المعانى بينما يُتابعون البرامج والأفكار ورسائل الحشد والتسويق؛ لكنهم ترجموها عمليًّا فيما أسرُّوا به للصناديق؛ لتكشف النتيجةُ فى ترتيب المراكز الثلاثة الأولى عن مَيلٍ إلى الليبرالية المُطوَّرة لا القديمة، وفى هويَّة الفائز عن إعلاءٍ لدور الدولة، وفى الوصيف عن تفضيلٍ لمسارٍ اجتماعى رُكنُه التمكين لا الإعالة، وديناميكية الانفتاح والتنافس والفروق الفردية، وليس العنوان التقدُّمى المُعبَّأ بحشوةٍ ماركسية مُضمَرة، تظلُّ رائحتُها حاضرةً مهما أُعيد خلطُها بمُشهّياتٍ حداثية لامعة.. ويظلُّ المكسب الأكبر من كل ذلك، أنَّ مرافق السياسة أُعيد تفعيلُها، بمعناها الموضوعى لا الشخصانى، وأنها صارت لاعبًا لا تنقصه جرأة المغامرة والتجريب، ويُمكن جداله ومُشاكسته والخلاف عليه، لتنتهى الجولةُ بحصيلةٍ مُعتبَرة من الحضور، وموعدةٍ بجاهزيّةٍ أكبر فى لقاء قريب.
لم تكن الرئاسةُ نِزاعًا حزبيًّا فى أيّة لحظة سابقة؛ هكذا بقطعٍ لا يتحرَّجُ من مزالق اليقين والإطلاق.. التجربة التعدُّدية الأولى فى 2005 خاضها عشرةٌ يُمثِّلون أحزابًا فى الظاهر، أمَّا فى الباطن فكانوا أفرادًا يتّكئون على حضورهم الخاص؛ ففاز الرئيس وتلاه مُؤسِّس حزبٍ وليد بالتزوير، وحلّ «الوفد» ثالثًا، وحصل الباقون على أرقامٍ فاضحة. وفى 2012 هيمن المُستقلّون واستند الحزبيّون لشهرتهم الذاتية، وفاز مُرشَّح الإخوان مدعومًا من الجماعة لا الحزب، وبالاستقطاب والرشاوى والمُزايدة الدينية لا بالفكر والبرنامج. أمَّا 2014 فحُسِمت للسيسى بشبه إجماعٍ بعد دوره فى ثورة 30 يونيو، و2018 كان المنافسُ حزبيًّا بالاسم؛ لكنه تقدَّم بشخصه لا بتيَّاره أو مُؤسَّسته. وجولة 2024 ربما تكون الأولى التى تنزع «فتنة الكاريزما»، حقيقيّةً كانت أو مُتوهَّمة، ويستند المنافسون فيها إلى أحزابهم. وازدادت الرمزيّة بأنهم رؤساء الأحزاب، ويُمثّلون ثلاث مراحل سياسية: «الوفد» عن تجربة التعددية فى الجمهورية الأولى، و«المصرى» عن مناخ يناير 2011، و«الشعب» عن الجمهورية الجديدة ما بعد يونيو 2013. ولم يكن أحدٌ فى الثلاثة نجمًا، ولا خطيبًا مُفوَّهًا ومُغرمًا بشخصه؛ كحال السابقين فى الاستحقاقات السابقة. وتصلح تلك الصيغة لأن تكون قاعدةً يُبنَى عليها فى المستقبل؛ خروجًا من زمن الزعامات والمفتونين بذواتهم، إلى زمن الكيانيّة الراسخة، والاختصام فى برامج وأفكار لا فى وجوهٍ وحناجر.
السياسةُ سبيلٌ إلى المبدأ؛ لكنها ليست المبدأَ نفسَه. بمعنى أنها وسيلةٌ لإنفاذ الغايات. ولأنه لا شكَّ فى رجحان عقول الذين قرَّروا التقدُّم للمنصب التنفيذى الأرفع؛ فالبديهة أنهم وهم يُنافسون رئيسًا على رأس المسؤولية، ومن خلال أحزاب مُهتزَّة وحضورٍ شخصى يعوزه الذيوع؛ كانوا يُوقنون أنهم ذاهبون لغايةٍ غير الفوز. أى أنهم قرَّروا أن يكونوا وقودًا يُضىء الطريق لأحزابهم، ويرفع حرارة المجال العام حتى يصير دافئًا ومُلائمًا لانخراط لاعبين جُدد. ربما لهذا بدت حملاتُهم أقرب إلى سباقٍ نيابى، تتقدَّم فيه صيغة الخدمات والشؤون اليومية على الاستراتيجيات والعناوين العريضة. لقد كانوا فى الواقع يُمهِّدون الطريق لمرحلةٍ تالية، يجنون ثمارَها فى البرلمان المُقبل بعد سنتين، أو يجنيها غيرُهم فى الرئاسة 2030؛ لكنّ الغرض أن يستثمروا أجواءَ الانفتاح المُتنامية، وحالةَ التفاهم التى خلقها «الحوار الوطنى»، لتكون الانتخابات بابًا يعبرون منه إلى ما بعدها، وليست محطّةَ وصولٍ يستمتعون فيها بالوجاهة وصِفة المُرشَّح الرئاسى السابق.
إن كانت 2011 قطيعةً مع ما قبلها؛ فإنها بذلك تصيرُ نقطةَ انطلاقٍ لتقييم ما بعدها. وقتها حاز «الوفد» 39 مقعدًا فى مجلس الشعب منها اثنان بالنظام الفردى، وكانت حصَّة «المصرى» 16 فيهم عضو مُعيَّن والبقيَّة بالقائمة، ولم يكن الشعب الجمهورى حاضرًا. وفى 2015 ارتبك القُدامى وبرز لاعبون جُدد: خسر الوفد 6 مقاعد عن السابق، وخسر المصرى 12، واقتنص الشعب 13 مقعدًا فرديًّا. وفى 2020 استمر نزيف الأوّل فجمع 26 فقط، وتعافى الثانى جزئيًّا فصار 7، وانتعش الثالث مُضيفًا 37 لحصَّته السابقة. وإذا قرأنا النتائج الرئاسية فى ضوء تلك الخلفية، فخُلاصتها أن «المصرى» يُواصل تعافيه، و«الشعب» ما زال صاعدًا على طريق الازدهار، أمَّا «الوفد» فإنه فى مسارٍ هابط، وهو فى الواقع قد تلقَّى ضرباتٍ قاسيةً منذ التحالف مع الإخوان فى الثمانينيات، ثم صراعاته الداخلية على القيادة قبل يناير، وصولاً إلى الطمع فى بطاقة الترشُّح للرئاسة من بعض رموزه العتيقة مُؤخّرًا؛ وإجمالاً فإن ما أعلنته هيئة الانتخابات يُعزِّز طموحات الوصيف وصاحب المركز الثالث، لكنه يفرض على «الوفد» العريق أن يُدير ورشةً حزبية جامعة، وعاجلةً، لدراسة التجربة والسعى إلى استعادة الهالة القديمة.
لن تبقى الأرقامُ الراهنةُ على حالها، ولا شك فى استفادة الأحزاب الثلاثة من زخم التجربة الرئاسية. وهى إن كانت تشتغل على التراكم بجدّية؛ فإن البرلمان المُقبل سيكون بوَّابتها للترشُّح السهل فى الرئاسة 2030؛ لهذا ستُكثِّف أنشطتَها وتستجمع قواها؛ لصَرف المكاسب المعنوية وحالة الذيوع التى تحقَّقت اليوم، من أجل التسابق على المقاعد التشريعية غدًا. ويُشكِّل ذلك تحدِّيًا للأحزاب الكبرى تحت القبَّة؛ إذ يمكن أن تخسر بعضَ رصيدها لصالح الصاعدين الجُدد، كما يضغط على أحزاب الهامش؛ وقد ازداد عدد المُتنافسين الكبار. يُمكن أن يُنشِّط ذلك مسار العمل على دمج الكيانات ذات المرجعيات المتشابهة، كأحد العناوين التى أثارها «الحوار الوطنى»، أو بناء تحالفات أكثر صلابةً يقود كلاًّ منها حزبٌ من أحزاب السباق الرئاسى. لكنّ المحنة أن جبهة المعارضة انقسمت على نفسها؛ عندما انحازت لخيارٍ بعينه، تأسَّس رهانُه على مُغازلة الإخوان، وبفشله فى الترشُّح هاجمت «الحركة المدنية» أحد كوادرها المُؤسِّسين لأنه خاض السباق، ما اضطرّه لتجميد عضويته. ورغم حديث قيادات المصرى الديمقراطى والعدل عن أنه موقفٌ مُؤقَّتٌ وقابل للمراجعة، قد لا يكون مُمكنًا عودة الحزبين للحركة مُجدَّدًا. وكلَّما صعد نجمهما سيخصم من التيار؛ ما قد يتبعه بروز جبهة مُعارضة جديدة بقيادتهما، وأن يتفكَّك الائتلاف القديم أو يُعاد تكوينه فى صورةٍ أكثر انسجاما وأقلّ فاعلية؛ لا سيما أن فيه من التناقضات ما يُقوِّض فُرصَ بقائه، وأن بعض أعضائه تحضَّروا للمُغادرة فعلاً بتدشين تيَّارٍ بديل قبل شهور.
لا يُمكن الاستناد إلى سرديَّة الحشد المصنوع بعد خريطة النتيجة المُعلَنة. كما لا يُمكن القفز على مُعدَّلات التصويت للأحزاب الثلاثة، وقد تجاوزت 10 %، رغم المناخ الأمنى بالغ الجدّية والاستثناء. ثمَّة رسالة للدولة بأن أجواء الانفتاح الأخيرة محلُّ ترحيبٍ، مع أملٍ فى استمرارها، وللأحزاب بأنّ الغياب آخر ما يُحبّه الشارع من أهل السياسة، ولا سبيل لتعويض الصراعات الداخلية بالخطابية الزاعقة، أو تغطيتها بادِّعاء المظلومية والانغلاق. يُعبَّدُ الطريقُ بالجهد والعمل وخطاوى السائرين عليه، وليس بالقعود والتباكى وإدمان الرخاوة والتقصير. وإن كانت القيادة بادرت بالدعوة للحوار، ثمَّ توسعة المجال العام وتنشيطه؛ فالأرجحُ أنها لن تُفرِّط فى هذا المسار، وستُواصل استثمارَه، كما ستكون من مزاياه تقوية الأبنيةِ الحزبيّة وتفعيل أنشطتها وقاعدة عضويَّتها، والترقِّى الصاعد من تجربةٍ لأُخرى. تقول النتائج الرئاسية كثيرًا ممَّا يجب أن يُزعج الأحزاب الهشَّة وزعامات الماضى البليدة، كما تقولُ ما يُوجب التفاؤل بشأن الرافعة السياسية التى صارت مُتاحةً بفاعليةٍ واضحة، وقابلةً للضبط والتطوير والوصول بها إلى مدىً أعلى. الإخفاقُ اليوم أهمُّ وأنفع للأحزاب ممَّا لو فاز أحد مُرشَّحيها؛ لأنّ كُسور العَظمِ لا يصحُّ أن تُترَك للالتئام على اعوجاج، والحياة السياسية فيها كثيرٌ من المثالب والمُنغّصات. انتهى زمن الشعارات، والذين يجلسون فى مقاعد المُتفرِّجين لا يمكن أن يكونوا ضمن الفريق، أو يُقرِّروا مسار المباراة. المشاركةُ وحدها بابُ كلِّ إنجازٍ راهن أو لاحق، والجمهور سبقَ الجميعَ إلى الملعب، ولن يهتف للغائبين عمدًا، ولن يُشجِّع المُتأخِّرين.