كان الاستقبال حافلا كالعادة لسيدة الغناء العربى أم كلثوم فى ليلتها بسينما قصر النيل يوم 3 ديسمبر 1964، واستمتع ملايين العرب بثلاث وصلات، قدمت فى إحداها قصيدة «أراك عصى الدمع» للشاعر «أبى فراس الحمدانى» والملحن رياض السنباطى، وفقا لمجلة «آخر ساعة»، عدد 1572، 9 ديسمبر 1964.
كانت «أراك عصى الدمع» فى هذه الليلة المرة الثالثة التى تغنيها أم كلثوم، ولكن بثلاثة ملحنين مختلفين، ففى عام 1926 قدمتها بلحن لعبده الحامولى، ويؤكد الكاتب والناقد جهاد فاضل فى مقاله «أبى فراس الحمدانى ظفر فى الانتخابات بصوت ليس كمثله صوت» بجريدة «القبس الكويتية» 8 مايو 2006، أن الحامولى لحن «أراك عصى الدمع» للشيخ أبوالعلا محمد الذى غناها بصوته، ثم أذن للمطربة الشابة الواعدة أم كلثوم بأن تغنيها، وسجلتها عام 1926 على أسطوانة لشركة «أوديون للفونوغراف»، وفى 1944 غنتها مرة أخرى بلحن للشيخ زكريا أحمد، لكن لم تسجلها على أسطوانات، وفى ليلة 3 ديسمبر 1964 أعادت غناء هذه القصيدة، بتلحين جديد فيه كلاسيكية وحداثة معا، للموسيقار رياض السنباطى، بعد أن أضافت إليها أبياتا ثلاثة للحمدانى من قصيدته نفسها، وهذه الأبيات: «وفيت وفى بعض الوفاء مذلة.. لفاتنة فى الحى شيمتها الغدر.. تسألنى: من أنت، وهى عليمة.. وهل لفتى مثلى على حاله نكر.. فقلت: كما شاءت وشاء لها الهوى قتيلك!.. قالت: أيهم فهم كثر».
وفيما يضع الشاعر فاروق شوشة «أراك عصى الدمع» ضمن «أحلى عشرين قصيدة حب فى الشعر العربى»، فى كتابه بنفس العنوان، فإن نقدا غريبا تناولها بعد حفلة ليلة 3 ديسمبر، وهو اتهامها بأنه «غير اشتراكية»، وجاء ذلك فى ظروف سياسية انتهجت مصر فيها «الاشتراكية» سياسيا واقتصاديا.
ردت «الأهرام» على هذا النقد الغريب بمقال بصفحة الرأى لم يحمل توقيعا عنوانه «أم كلثوم وجناح النسر» يوم 21 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1964، استهلته بالقول: «هناك ظاهرة تستحق الاهتمام فى محاولة ممارسة النقد التى تجرى الآن على أوسع نطاق فى مجتمعنا، أحيانا يبدو وكأن هناك من يتصورون أن القيم الكبيرة فى نضالنا تصلح لأن تستعمل فى بعض الأحيان كسياط تلسع أى نشاط بدل أن تدفعه، وفى بعض الأحيان الأخرى يبدو وكأن هذه القيم الكبيرة تزحزح من مكانها وترفع فى ما غير هدف بل ولغير ما سبب».
يضيف المقال: «نموذج لهذا بعض النقد الذى وجه للمحاولة التى قامت بها أم كلثوم لتجديد لحن أغنيتها الشهيرة «أراك عصى الدمع» التى كتبها «أبوفراس» منذ مئات السنين، وأعاد الموسيقار رياض السنباطى تلحينها لتكون فى بداية موسم أم كلثوم الجديد، وفى الوقت الذى أحدثت فيه القصيدة فى تلحينها وأدائها الجديد ضجة واسعة فى العالم العربى كله، وفى الوقت الذى فيه آلاف المستمعين العرب يضغطون بكل الوسائل للحصول على تسجيلات لها، كان البعض فى القاهرة يحاول وضع هذا الجهد الفنى الرائع كله للنقد».
يؤكد المقال: «ليس فى هذا مأخذ بل هو الواجب تجاه أى عمل فنى، لكن الغريب أن تجرى محاولة نقد أهل الفن الجديد لقصيدة «أراك عصى الدمع»، وأن يكون الرأى فيها ليست «اشتراكية»، لماذا؟ لأن أبوفراس منذ ألف سنة كتب فى القصيدة بيتا يقول فيه: «معللتى بالوصل والموت دونه.. إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر».
والشطر الثانى من البيت فى رأى الناقدين هو موضع الاعتراض، لأن الأنانية الظاهرة فيه غير اشتراكية، لأن أبو فراس لا يهمه على ما يبدو من تعبيره غير نفسه ولا يهتم بالمجتمع كله، فهو لا يهتم بنزول المطر بعده إذا مات هو ظمآنا، وكان يجب أن يكون موقفه على عكس ذلك - فى رأى الناقدين.
يختم مقال الأهرام رده قائلا: «كلام غريب أحيانا ذلك الذى يقال باسم النقد، ومع ذلك يقال كنقد، ويقال كفكر اشتراكى وليست له بأيهما علاقة، نحن نريد للفن المصرى أن يحلق عاليا كالنسر، وبعض النسر الناس أحيانا - وربما بحسن نية ساذجة - لا يستطيعون التعبير عن إعجابهم بالنسر إلا بجذب ريشة من جناحه».
لم تذكر الأهرام أصحاب هذا النقد، لكن فى كتابى «أم كلثوم وحكام مصر»، عام 2000 قال لى الكاتب سعد الدين وهبة فى شهادته عن «أم كلثوم»، بوصفه ممن اقتربوا منها: «بعد أن غنت أم كلثوم قصيدة «أراك عصى الدمع» كتب أستاذنا فى جريدة الجمهورية سامى داود، معلقا على بيت «إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر»، بأن الأغنية غير اشتراكية لأن فيها أنانية، وقارن بينها وبين شعر لأبى العلاء المعرى يقول فيه: «فلا نزلت علىّ ولا بأرضى.. سحائب ليس تنتظم البلاد»، يضيف وهبة: «استفز هذا الكلام جمال عبدالناصر فاتصل برئيس مجلس إدارة الجمهورية، وقال له: «خلاص قصيدة شعر بتقدمها أم كلثوم هتقيسوا عليها إذا كانت اشتراكية ولا لأ.. بطلوا الكلام ده».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة