ربما كانت إثارة الفتن أحد أهم الأدوات التي استخدمتها القوى الدولية الكبرى، في إطار مساعيها الدؤوبة للاحتفاظ بمكانتها، على قمة النظام العالمي، وهو النهج الذي اختلفت أشكاله، بين حقبة وأخرى، في ظل حالة دائمة تقوم في الأساس على تأجيج الصراعات الدولية، حتى يتسنى لها القيام بدور تستطيع من خلاله إعادة توجيه "بوصلة" الدول نحوها، بالشكل الذي يمكن من خلاله تحقيق السيطرة الكاملة، وهو ما يبدو بجلاء منذ عقود طويلة من الزمن، وهو ما يهدف في جوهرة إلى تفكيك حالة التماسك بين مجموعة من البشر، وتحويلهم تدريجيا من حالة التعايش إلى الصراع، وهو ما يتواكب مع مصالح القوى الكبرى.
وللحقيقة، فإن سياسة تأجيج الفتن ليست حديثة العهد، وإنما ترجع إلى عقود طويلة من الزمن، وإن اختلفت أشكالها بين حقبة وأخرى، ففي الحقبة الاستعمارية، تجلى مفهوم "الحماية" الذي طالما روجت له الامبراطوريات الأوروبية لتبرير انتهاكاتها لسيادة الدول واستقلالها، عبر الضغط على ما يمكننا تسميته بـ"المناطق الرخوة"، بالتلويح بورقة الأقليات الدينية والعرقية بالدول المُستعمرة، بينما كان النهج ذاته سائدا إبان الحرب الباردة، حيث حمل الصراع خلالها مسارين، أحدهما قائم على الأيديولوجية (الرأسمالية الأمريكية والشيوعية السوفيتية)، بينما اعتمد في المسار الآخر على تأجيج النزعات الانفصالية على أساس الهوية، وهو ما ساهم في نهاية المطاف في تفجير الاتحاد السوفيتي من الداخل وانهياره لتبدأ حقبة جديدة تسود عليها حالة الهيمنة الأحادية المطلقة.
وعلى الرغم من هيمنة قوى دولية واحدة على مقاليد الامور في العالم، تبقى حالة البحث عن "فتنة" قائمة، ولكن يبدو أن الحاجة كانت ملحة لـ"فتنة" عالمية أوسع نطاقا، عبر تأجيج ما يسمى بـ"صراع الحضارات"، وما تلاها من معارك بين الحضارة الإسلامية والغرب، لتتجلى في أبهى صورها في الحرب التي أطلقتها واشنطن في أعقاب 11 سبتمبر، لينتج عنها "فتنة مزدوجة" الأبعاد، أحدهما ذات نطاق عالمي، تجلى في حالة التباعد بين الدول الإسلامية والغرب، والاخر داخليا، عبر انفراط وحدة الدول الإسلامية، على غرار العراق، على أساس عرقي وطائفي، وهو ما نجحت القوى الدولية الكبرى في تعميمه بعد ذلك بسنوات قليلة في منطقة الشرق الأوسط، إبان "الربيع العربي".
وهنا نجد أن إثارة "الفتن" تبدو استراتيجية دولية، تعتمد في الأساس على استغلال مناطق الضعف داخل المجتمعات، بدءً من الداخل، لتنطلق منها إلى نطاق إقليمي أوسع، ومن ثم تصبح عالمية في إطار أكثر اتساعا، وهو ما يمثل في جوهره المصلحة العليا للقوى الحاكمة، والتي يمكنها حشد مزيد من الأنصار، من خلال دعم بعضهم في الصراعات الضيقة التي يخوضونها، مقابل تقديم فروض الولاء والطاعة للقوى المسيطرة على العالم.
فلو نظرنا إلى الأزمة الأوكرانية الحالية، كنموذج لاستراتيجية "الفتن"، نجد أنها ثمرة لمراحل عدة من الفتن التي سعت إلى تأجيجها القوى الدولية الكبرى، بدءً من الداخل الأوكراني، عبر الإطاحة بالرئيس الأسبق فيكتور يانكوفيتش، بإشعال نار الاضطرابات، لتنجم عنها فتنة إقليمية، في أوروبا الشرقية، بدأت في 2014، مع التدخل العسكرى الروسي، لضم شبه جزيرة القرم، لتتفاقم الامور إلى فتنة دولية أكبر تتجلى بوضوح في الوضع الراهن.
ولعل الملفت للانتباه أن "دائرة الفتنة"، تبدو مستمرة، مع توسع نطاقها، وهو ما يبدو في تخلي العديد من الدول عن مواقفها الحيادية، رغم تاريخيتها، على غرار السويد وفنلندا، والتي حظت بقدر كبير من النفوذ الدولي والاقليمي بفضل تلك المواقف التي تبنتها، وهو ما بدا على سبيل المثال في التوافق الروسي الأمريكي على عقود قمة تاريخية في العاصمة الفنلندية هلسنكي، جمعت بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي السابق دونالد ترامب في عام 2018.
الحالة الدولية الراهنة، ربما تتطلب المزيد من الانشقاق على المستوى الدولي، في ظل الحشد المستمر من قبل القوى المتصارعة، في سبيل زحزحة مواقف الدول التي تبنت رؤى محايدة تجاه أطراف الصراع الدولي الراهن، بينما تطورت الأدوات المستخدمة في تحقيق هذا الهدف، في ظل الطفرة التكنولوجية الحالية، سواء عبر "السوشيال ميديا" أو بعض الأقلام غير المسؤولة، لتخرج نار التوتر في العلاقات بين الدول من مستصغر الشرر، والتي من شأنها شق الصفوف، واستقطاب القوى المؤثرة، في ظل حالة مخاض يمر بها النظام العالمي في اللحظة الراهنة.
وهنا يمكننا القول بأن استثارة "الفتن"، ليست مجرد حركة فوضوية، يقودها العامة، وإنما تبدو استراتيجية منظمة، وليست وليدة الصدفة، في ظل عالم تحولت فيه مواقع التواصل الاجتماعي، إلى أداة مؤثرة بصورة كبيرة على المواقف الرسمية للدول، حيث تهدف في الأساس إلى ضرب الاستقرار، انطلاقا من الداخل في الدول المؤثرة، لتنطلق منها إلى الفضاء الاقليمي والعالمي بصورته الأوسع نطاقا لخدمة مصالح القوى الكبرى التي تسعى للاحتفاظ بهيمنتها أو لتجد دورا لنفسها في الحقبة الدولية الجديدة.