سارة درويش

وعملت إيه فينا السنين؟!

الجمعة، 17 فبراير 2023 08:15 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا يغير الوقت نظرتنا إلى العالم فقط وإنما الأهم هو ما يغيره في نظرتنا لأنفسنا. قبل سنوات كان أكثر ما يرعبني أن أكون شخصًا روتينيًا، يفعل الشيء نفسه كل يوم بترتيب ممل وقاتل. لا يتغير شيء في حياته، ولا ينتظر مفاجأة واحدة. ولكنني بعد سنوات أدركت "برعب" أنني أسعى جاهدة لأن أكون هذا الشخص الروتيني صاحب الجدول الثابت، دون أية مفاجآت. وبعد المزيد من الوقت أصبحت أتقبل تمامًا أن أكون هذا الشخص.

أصبحت أرى في الروتين الثابت نوعًا من الأمان. أن تعرف ما يمكن أن يحدث في يومك على مدى أسبوع كامل ليس شيئًا مرعبًا كما كنت أظن، بل أدرك الآن كم هي نعمة عظيمة.  كانت حياتي دائمًا مليئة بالمفاجآت. بالخطط غير المكتملة والأيام التي لا تعرف أبدًا كيف يكون شكلها في الدقيقة التالية. كل ما يحدث مهدد بألا يكتمل. وإن اكتمل لا تشعر أبدًا بلذته لأن "القلقان عمره ما ينبسط" كما يقول تعبير العبقري الراحل وحيد حامد في "اضحك الصورة تطلع حلوة" ، ورغم ذلك كانت لدي فرصة للملل، للثوان الفارغة من كل شيء حتى أنني أسمع فيها دقات الساعة المرعبة.

الآن أصبح الروتين هو مازورتي لقياس درجة رضايّ عن يومي. ذلك اليوم الذي يسير تمامًا كما خططت له رائع، وذلك الذي ينحرف عن مساره، ولو قليلاً، يكاد يصيبني بالجنون. وربما كانت كل تلك المفاجآت القديمة هي بداية هوسي بالسيطرة!

أدركت أنني الآن أفعل كل شيء لأستعيد لحظة ما بحذافيرها. هناك داخل قلبي مكان ما أختزن فيه كل تلك اللحظات السعيدة بكافة أبعادها، الوقت وحالة الطقس والمذاق في فمي والرائحة. أحاول استعادة أحدها كل يوم. في الحقيقة ما أحاول استعادته فعلاً ليس اللحظة وإنما شعوري وقتها.

أكلة الرنجة ثم البرتقال في عصر يوم شتوي دافئ. كل طعام أمي بنفس مذاقه ورائحته. رائحة ومذاق اللب الطازج مع كتاب بين يدي. الفيشار الساخن مع فيلم أحبه. القطط المستغرقة في النوم فوق بطانيتي في ليلة شتوية. الشقة المعبقة برائحة البخور والستائر المسدلة في ظهيرة يوم صيفي. الزكام ورائحة البرتقال والتلفزيون في غرفتي مع كوب شاي ساخن. رائحة نسمات الفجر ممتزجة مع رائحة كتاب ورقي.

كل لحظات الرضا البسيطة القابلة للتكرار والتحقق أختزنها داخل قلبي وأحاول استعادتها كلما سنحت الفرصة لأنني لم أشبع أبدًا منها لحظة حدوثها! ويمكنني الآن أن أفهم سر هزة رأس "الكبار" الممتزجة بالأسى والحنين وهم يؤكدون أن الحياة لم تعد كما كانت، وأن كل شيء فقد مذاقه ولذته. ذلك الأسى الذي كان يحيرني كثيرًا في طفولتي ويجعلني أتهمهم بالمبالغة فلم يكن بوسع الطفلة التي كنتها أن تستوعب ما يفتقدوه، ولم تفهم أبدًا كيف يمكن للحياة أن تكون أروع؟

 

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة