توجه السفير السوفيتى فى مصر «سيرجى فينوغرادوف» إلى سيدة الغناء العربى أم كلثوم فى فيلتها بالزمالك لتقديم دعوة إليها لزيارة الاتحاد السوفيتى، موجهة من وزيرة الثقافة السوفيتية السيدة «إيفاترينا فورنسينا»، حسبما تذكر الأهرام يوم 17 مارس 1970، وأضافت: «ستتم الزيارة فى شهر سبتمبر المقبل، ومن المقرر أن تزور السيدة أم كلثوم موسكو وليننجراد، كما أبدت رغبتها».
جاءت الدعوة فى مناخ كانت فيه العلاقات المصرية السوفيتية فى أوج ازدهارها، وشهدت زيارات متبادلة بين البلدين على مستوى القمة بعد حرب 5 يونيو، حيث سافر جمال عبدالناصر إلى موسكو خمس مرات من أجل بحث إعادة تسليح الجيش المصرى بالسلاح السوفيتى، وكانت الزيارة الرابعة فى 22 يناير 1970 حسبما يذكر الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية وقتئذ فى مذكراته «حرب الثلاث سنوات-1967 -1970»، والذى رافق عبدالناصر فى هذه الزيارات، ويؤكد أن الزيارة الرابعة عاد منها الرئيس عبدالناصر والوفد المرافق له إلى مصر مسرورين بالدعم السياسى والعسكرى الجديد والذى لم يسبق للاتحاد السوفيتى أن قدم مثله لدولة صديقة منذ الحرب العالمية الثانية، وكان هذا التواجد السوفيتى والدعم العسكرى ردعا سياسيا وعسكريا لكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
بعد زيارة عبدالناصر الرابعة إلى موسكو بأقل من شهرين كانت زيارة السفير السوفيتى إلى أم كلثوم فى فيلتها بالقاهرة، وكانت لها مقدمات كشف لى الكاتب سعد الدين وهبة عن أسرارها فى شهادته التى حصلت عليها فى لقائى به عام 1996 لكتابى «أم كلثوم وحكام مصر»، كما رواها هو فى كتاب له بعنوان «أم كلثوم»، أصدرته «الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما» أثناء مهرجان الإسكندرية السينمائى الدولى، سبتمبر 1999».
يكشف «وهبة» أنه كان فى هذه الفترة يتردد على أم كلثوم لعقد جلسات حوارية معها لكتابة قصة فيلم عن حياتها يخرجه يوسف شاهين، وتنتجه وزارة الثقافة المصرية، وكان وزيرها الدكتور ثروت عكاشة مهتما بهذا المشروع الذى لم ير النور بالرغم من وضع الخطوط الأولى للسيناريو الخاص به، يضيف «وهبة» أنه أثناء تردده على أم كلثوم، اتصل به ذات يوم مراسل جريدة البرافدا السوفيتية فى القاهرة، وكانت أكبر الصحف السوفيتية ولسان حال الحزب الشيوعى «تأسست عام 1912 وأوقفها الرئيس الروسى الأسبق يلتسين بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، ثم عادت للصدور بصيغة مختلفة».
يذكر «وهبة»، أن مراسل البرافدا قال له إنه يريد أن يجرى حديثا صحفيا مع أم كلثوم، وأن البعض دله عليه ليكون وسيطا.. يؤكد: «قابلتها فى نفس اليوم، وأبلغتها برغبة مراسل البرفدا، وسألتنى عن أهمية البرافدا، فشرحت لها قيمة الجريدة فى الاتحاد السوفيتى، وسألتنى: هل أجرت هذه الجريدة أحاديث مع أحد فى مصر؟.. أجبتها: أعتقد أنها أجرت حديثا واحدا فقط مع الرئيس عبدالناصر.. علقت ضاحكة: «حوار واحد بس مع الرئيس».
وافقت أم كلثوم، وطلبت من «وهبة» حضوره مع المراسل يوم الثلاثاء ..يتذكر «وهبة»: «أبلغت الشاب الذى فرح فرحا شديدا، وطلبت منه أن يمر على بيتى لنذهب معا إلى بيتها، وفى الموعد المحدد قدمت هذا المراسل وجلسنا، وسألتنى عن اللغة التى يتحدث بها، فأجبتها: يتحدث الإنجليزية.. يضيف: «قلت ذلك وتأهبت لمغادرة البيت بعد أن انتهت مهمتى فإذا بها تقول: «إنجليزى، تبقى تقعد عشان تترجم».. يعلق وهبة: «كانت المرة الأولى التى أعرف فيها أن أم كلثوم لا تعرف الإنجليزية رغم إجادتها للفرنسية إجادة تامة».. يضيف : «جلست، بدأت الأسئلة ينطقها المراسل بالإنجليزية، وأنقلها إليها بالعربية ثم أسمع ردها بالعربية لأعيده للمراسل بالإنجليزية».
يتذكر «وهبة» فجأة أثناء الحديث توقفت ونظرت لى وسألتنى بالعربية: طبعا، أنا بأقول كلام فارغ.. رددت: بالعكس أنت بتقولى كلام رائع جدا..وعادت تسأل: طب ليه الرد اللى أنت ترجمته بالإنجليزية أطول بكثير من الرد اللى أنا بأقوله لك بالعربى، أفهمتها أنى أطيل فى الرد عن عمد حتى لا يفلت منى معنى أو من المراسل باللغة الإنجليزية.. ظهر عليها الاقتناع، واستمر الحديث».
كانت إجابة أم كلثوم على آخر سؤال فى الحوار مدهشة ومعبرة عن شخصيتها العظيمة، البسيطة، الصادقة.. أجابت بكلمات قصيرة ومكثفة أشبه يلحظة التنوير فى ختام القصة القصيرة..يذكر «وهبة»: «أذكر آخر سؤال وجهه إليها المراسل.. ماذا تفعلين إذا حققتم الانتصار على إسرائيل بالسلاح السوفيتى.. أجابت بتلقائية غريبة: «أغنى للشعب السوفيتى فى شوارع موسكو».
يتوقع «وهبة»: «يبدو أن نشر هذا الرد بهذا الوضوح، لم تنتظر القيادة السوفيتية حتى يتحقق النصر، فقد دعيت أم كلثوم كى تغنى للشعب السوفيتى فى موسكو وليس فى شوارعها»، وفى 26 سبتمبر، 1970، بدأت زيارتها وسط حفاوة كبيرة بها، لكنها ألغت حفلاتها بسبب وفاة جمال عبدالناصر، وعادت حزينة منكسرة، وتلك قصة أخرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة