واصل النائب العام عبدالخالق ثروت باشا التحقيق مع إبراهيم الوردانى، الذى أقدم على جريمة قتل بطرس باشا غالى رئيس النظار «الوزراء»، وسأل عدة أشخاص ممن لهم صلة بالمتهم حتى يعرف الأبعاد الكاملة لجريمة القتل، التى وقعت يوم 20 فبراير 1910 ،وهى الجريمة التى بسببها «ارتجت البلاد ارتجاجا شديدا، فقد كانت رصاصاته الست أول ما فرق الهدوء املصرى التقليدى»، حسب وصف فتحى رضوان فى كتابه «نصف قرن من السياسة».
يصف «رضــوان» الحالة التى بدا عليها «الوردانى» بعد القبض عليه واقتيادته إلى التحقيق: «جرى وراءه الصحفيون الأجانب قبل الصحفيين المصريني، فلم تطرف له عني، ولا يختلج فيه عصب، ومضى مكبل اليدين، صامتا، مطبق الشفتين ناظرا إلى الأمام هادئا ثابتا، وقال المعلقون ممن يعرفون علم النفس: إن هؤلاء الذين يقدمون على قتل الكبراء، دون أن يفكروا فى الهرب، يشعرون بأن الفعل الذين أجمعوا أمرهم على ارتكابه، هو هدف حياتهم، به يتحقق وجودهم، ومن ثم فهم لا يشعرون بشىء من حولهم، ولا يفزعهم أن مصيرهم الموت، ولا يخيفهم شىء من مظاهر السلطة التى تحيط بهم لأنهم لا يحلقون فى دنياهم، ولما دخل الوردانى إلى غرفة النائب العام، لم ينكر فعلته، ولم يبد ندما على إتيانها، وبررها بأسباب عديدة، وأكد أنه كان وحده، وليس له شريك ولا محرض، ولا معني إلا قلبه، وخرج بنفس الهدوء الذى دخل به حجرة النائب العام».
كان إبراهيم الوردانى يبلغ من العمر وقت تنفيذ الجريمة 23 عاما، ويكشف أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديو عباس الثانى فى مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن»: «تلقى إبراهيم الوردانى العلوم فى المدارس المصرية حتى حصل على شهادة البكالوريا، ولما توفى والده قام عمه الدكتور ظفيل حسن باشا بتربيته، وأرسله بعد البكالوريا إلى سويسرا لتلقى علوم الصيدلة، فمكث فى لوزان سنتين، ثم ذهب إلى إنجلترا فقضى بها سنة، وعاد إلى مصر، فافتتح بها صيدلة بشارع عابدين، واتصل بالحزب الوطنى، وهو شاب عصبى المزاج شديد الانفعال». ويصفه الدكتور محمود متولى فى كتابه «مصر وقضايا الاغتيالات السياسية»: «شاب حميد الأخلاق أبى النفس محبوب من جميع زملائه، أسس جمعية وطنية سماها «جمعية التضامن الأخوى» التى ينص قانونها على أن من يندمج فى عضويتها يكتب وصيته قبل ذلك، ولم يصدق أصدقاؤه خبر أنه هو الفاعل الذى قام باغتيال رئيس الوزراء، لأن من كان مثله فى طهارة أخلاقة وطيب أعراقه واطمئنان تفكيره واشتغاله بتحضير عقاقير، لا يقدم على الاغتيال».
يؤكد شفيق باشا أن النيابة أجرت التحقيقات مع عدة أشخاص ممن لهم صلة بالوردانى، وتم التوصل إليه بالعثور على أسمائهم أو صورهم بين أوراقه، وأوراق أعضاء الحزب الوطنى، وفى مقدمتهم محمد فريد بك رئيس الحزب الوطنى، الذى قال: إن علاقته بالقاتل كعلاقته بكل عضو من أعضاء الحزب الوطنى، وتم القبض على شفيق منصور وعباس حسنى، ومحمد الصباحى الطالب بمدرسة رأس التين، وعبدالله حلمى المهندس بالأوقاف، ومحمد زكى على أفندى المحامى.
وفى يوم 25 فبراير 1910 أطلق سراح ثمانية من هؤلاء المتهمين، وبقى 9 منهم الوردانى، ثبت أنهم أعضاء فى جمعية سرية للقتل السياسى تكونت من 6 سنوات، وضبط قانون الجمعية بين أوراقهم، وسمعت النيابة أقوال على الشمسى أفندى وخلاصتها، أنه رأى الوردانى يوم انعقاد الجمعية العمومية للنظر فى مشروع امتياز القناة، وهو ثائر متهيج، وشديد الإخلاص لإخوانه، حتى إنه كان ينفق عليهم بعضا من ماله ويدع نفسه فى حاجة وشدة، وكان يلاحظ فيه الحياء فى مجالسه وقلة الكلام مع شدة الحماسة فى الجدل، ولكنه لم يكن يجاوز حدود الأدب فى مناقشاته إذا احتد.
تواصلت التحقيقات، ويذكر «متولى»: اتضح وجود 85 جمعية سرية لا تعلم الحكومة عنها شيئا، وفى 14 مارس، مثل هذا اليوم 1910 ،أصدر النائب العام قرارا باتهام إبراهيم ناصف الوردانى بأنه قتل عمدا مع سبق الإصرار المرحوم بطرس باشا غالى، وباتهام كل من على أفندى مراد «مهندس معمارى»، ومحمود أفندى أنيس «مهندس رى»، وشفيق أفندى منصور «طالب حقوق»، وعبدالعزيز أفندى رفعت «مهندس تنظيم»، ومحمود عبدالخالق أفندى عطية «محام»، ومحمد أفندى كمال، وحبيب أفندى «مـدرس» بصفتهم شركاء للوردانى فى جريمته. وفى جلسة 22 مارس 1910 ،قرر قاضى الإحالة، متولى بك غنيم، إحالة الوردانى وحده إلى محكمة الجنايات، وإخلاء سبيل الآخرين، لأن القانون حتى ذلك الوقت كان ينص على إعفاء المشتركين فى الاتفاق الجنائى، إذا لم يرتكبوا حوادث بالفعل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة