«أيها الناس، ادعوا الله ينصر ديليسبس، واطلبوا إلى الله القوى القدير أن يبارك عمله فى وصل البحرين».. هكذا وجه الشيخ عثمان محمد «شيخ مسجد عمر» فى بيت المقدس نداءه إلى الناس فى القدس وغزة ويافا وحيفا كى يستجيبوا لطلب ديليسبس بالذهاب إلى العمل فى حفر قناة السويس، حسبما يذكر الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى فى كتابه «السخرة فى حفر قناة السويس».
جاء ذلك بعد أن وصل ديليسبس إلى بيت المقدس فى 27 مارس، مثل هذا اليوم، عام 1861، وذلك فى جولة إلى بلاد الشام لاستقدام عمال منها إلى جانب العمال المصريين فى حفر القناة، ويذكر «الشناوى» أن ديليسبس أعلن عن رحلته يوم 19 مارس، وبدأها فى يوم 21 مارس مارا بالعريش ثم غزة حتى وصل إلى بيت المقدس، وكان يضع العمال السوريين بشكل خاص ضمن خطته.
وإذا كان من اللافت تاريخيًا أن يكون هناك عمال من الشام شاركوا إخوانهم المصريين فى عملية حفر القناة، وذاقوا سويا حالة السخرة التى اشتهرت بها هذه العملية، فإنه من المثير فى هذا الأمر استخدام ديليسبس ورقة الدين لتحفيز أهل الشام لقبول دعوته، ويذكر الشناوى: «كانت دعاية الشركة فى سوريا لجمع العمال مقصورة أول الأمر على المسيحيين دون المسلمين، وتوقعت الشركة أن تستجيب لها جموع حاشدة من العمال المسيحيين، ولكن لم يفد عدد كبير منهم، فرأت أن تعمم دعايتها فى أوساط المسلمين والمسيحيين على السواء، واستعانت بالشخصيات الدينية الإسلامية هناك لحض المسلمين على العمل فى حفر القناة، واستصدرت من الشيخ عثمان محمد شيخ مسجد بيت المقدس نداء باللغة العربية وجهه إلى الأهلين هناك، ونشرته جريدة الشركة مترجمًا إلى اللغة الفرنسية».
ووجه «الشيخ عثمان» فى ندائه أشد الاتهامات لأعداء ديليسبس، وفى المقابل أنزل عليه صفات تكاد ترفعه إلى مصاف الملائكة، وطبقًا لذلك طلب من الجميع الإسراع إليه، وقال الشيخ عثمان فى ندائه: «أيها الناس تعالوا وابحثوا عن ديليسبس، وكونوا له السواعد القوية، أمسكوا بالفؤوس واعملوا طوع أمره، استمعوا أيها الإخوان لكلام مبعوثيه، إنهم قوم عدول، ولا تصغوا إلى ما يشيعه حساده، ودعاة السوء الذين يطمسون بصائركم، اتبعوا ديليسبس واحتقروا أعداء مشروعه النبيل، سيروا تحت رايته تكونوا سعداء ولن تحيق بأس مسلم يسير وراءه إهانة أو يصيبه ظلم، ولكنه سيحظى بالرفق الذى يزخر به قلبه، إن تقارير إخواننا سكان جبل فلسطين وبيت المقدس تجمع على أن ديليسبس هو والد الجميع».
يصل الشيخ عثمان فى ندائه إلى القول: «أيها الناس ادعوا الله ينصر ديلسبس، واطلبوا إلى الله القوى القدير أن يبارك فى عمله فى وصل البحرين، أيها الناس اعتقدوا فيما يقوله مبعوثوه، فإن نداءهم يجب أن ينفذ إلى أعماق قلوبكم، وإن من يستجيب لهم فلن يحس بالندامة أبدا».
إلى أى مدى حقق هذا النداء بصبغته الدينية المصلحة التى سعى إليها ديليسبس؟.. يجيب «الشناوى»: «يلوح أن العمال المسلمين قد أقبلوا على الرحيل إلى مصر للعمل فى حفر القناة بتأثير الصبغة الدينية التى اتسم بها هذا النداء، فضلًا عن أن واضعه كان يشغل مركزًا دينيًا محترمًا، بل لعل بعضهم قد نزح إلى مصر مع أفراد عائلاتهم بدليل أن الشركة عينت لهم مأذونا يتولى تصريف الأمور الاجتماعية بينهم، ويقومون فى نفس الوقت بتعليم أولادهم، كما عينت أحد القضاة الشرعيين للفصل فى المنازعات التى تقع بينهم، واستقدمت الشركة القاضى والمأذون من سوريا وجعلت مقرهما القنطرة».
يذكر «الشناوى» أن أبواق الدعاية فى الشركة فى كل من باريس ولندن، أخذت تباهى بفضل الشركة على الإنسانية، وذهبت فى ذلك غريبا حيث نشرت فى جريدة الشركة مقالا قالت فيه: «إن حالة الضنك والآلام التى يعانيها سكان سوريا فى هذه الأيام من جراء أزمة التموين والاضطرابات السياسية، وتقدم شركة القناة لتوفير أسباب العيش أمام السوريين فى هذه الظروف الحرجة لدليل على أنها قد أسدت خدمة جليلة للإنسانية».
أمام دعاية «ديلسبس» المكثفة فى الشام يقفز إلى الذهن سؤال: «كم بلغ عدد العمال الذين جاء بهم؟.. يجيب «الشناوى»: «لم يبلغ عدد العمال السوريين الذين نزحوا إلى مصر للعمل فى حفر القناة رقما عاليا بالنسبة إلى مجموع العمال المصريين الذين تحملوا وحدهم العبء الأكبر فى عمليات الحفر، فقد كان مجموع عدد العمال فى شهرى إبريل ومايو 1861 يتراوح بين ستة وسبعة آلاف عامل، وكان عدد المصريين خمسة والسوريين ألفين على أكثر تقدير».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة