توفى عبقرى الفن المصرى «المثال محمود مختار»، يوم 27 مارس 1934 وعمره 43 عاما، صاحب تمثال «نهضة مصر» فكان لارتحاله هزة ألم حزين عند أصدقائه ومعاصريه، فبكاه المفكرون والشعراء، ووجدت الأقلام فى رثائه متنفسا عما كانت تعانيه من ضيق وقيود وحكم مطلق، حسبما يذكر «بدر الدين أبوغازى» فى كتابه «المثال مختار».
كان عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين ممن بكوا «مختار» فى مقال طويل بعنوان «مختار» نشرته جريدة «كوكب الشرق» فى 28 مارس، مثل هذا اليوم، 1934، وصفه فيه بأنه «فتى مصر الذى لومدت له الحياة لمضى بأمته فى طريق من المجد»، وربط بين تفجر عبقريته ونضال شعب مصر فى مرحلة ثورة 1919.
ويقول طه حسين فى مقاله: «كانت الحياة الفنية فى مصر جذوة ملتهبة مضيئة ملأت العالم القديم نورًا وإشراقًا، وأقامت حضارات العالم القديم على أساس من الجمال الرائع، ثم كانت الأحداث وألمت الخطوب، وتتابعت الكوارث، وأخذت حضارة مصر القديمة تنهار شيئا فشىء، وتخفى هذه الجذوة المضيئة قليلا قليلا، حتى اختفت على الناس جميعًا، وعلى المصريين خاصة، وحتى نسى الناس، ونسيت مصر نفسها أن الفن هو ابن النيل».
يضيف طه: «استمر هذا الحال حتى كان هذا العصر الحديث، فاستكشف لها الأجانب هذا المجد، وأزال لها الأجانب تلك الأنقاض الضخمة المتراكمة على هذا التراث الخالد والتاريخ المجيد، وإذا مصر الحديثة تلقى مصر القديمة، وإذا شباب مصر فى هذه الأيام يشاركون آباءهم برغم ما مضى بينهم من القرون فى هذا الشعور المقدس بجمال الفن، ورفعته والطموح إلى مثله العليا، وإذا مختار رسول هذه النهضة، ومثير هذه الحركة وعنوان هذا المجد الجديد».
وعن السياق الوطنى الذى نبغ فيه مختار يقول طه: «ظهر نشاط مختار فى نفس الوقت الذى ظهر فيه نشاط مصر كلها للسعى إلى الاستقلال والإلحاح فيه، والمطالبة بأن تعترف لها الأمم به وتقرها الأمم منه على ما تريد.. فى الوقت الذى كان المصريون يثورون على ضفاف النيل ليظفروا باستقلالهم السياسى، يضحون فى سبيل ذلك بالأنفس والأموال كان نشاط مختار يؤتى ثماره فى باريس على ضفاف السين، ويثبت لأوروبا أن النهضة المصرية ليست كلاما ولا لغوا، ولا محاولة من هذه المحاولات التى لا تجدى وإنما هى حقيقة واقعة تصور شعبا استيقظ بعد نوم، ووصل قديمه بجديده».
يرى طه: «كان نشاط مختار من أبلغ الدروس التى يلقيها الدهر على الناس، درسا للمصريين يعلمهم أروع تعليم أنهم بعيدون كل البعد عما كان قد ألقى عليهم من اليأس، قادرون كل القدرة على أن يحققوا ما تراءى لهم من الأمل، ويعلم الأوروبيون أن مصر لم تمت وما ينبغى لها أن تموت.. أحيا مختار فى نفوس المصريين هذه العزة الراقية التى تتصل بالفن والتى تشعر القلوب ثقة وتملؤها أملا، ومن ذلك الوقت اتصل مختار بنفس الشعب المصرى، واختصر الشعب المصرى نفسه فى شخص مختار، وأصبح مختار فتى مصر حقا، فتاها حين يجد فينتج آثاره الفنية العليا، وفتاها حين يهزل فيبعث فى قلوب الذين يتصلون به أجمل العواطف وأعظمها حظا من الرضا والأمل والابتسام للحياة».
يكشف طه عن محنة «مختار» رغم نبوغه، قائلا: «ما كادت آثار مختار تظهر فى باريس حتى نشطت مصر كلها لتخليد هذه الآثار، وإذا الشعب المصرى يكتب ويجمع المال ليمكن مثاله الفتى من أن يقيم تمثاله الخالد على أرض الوطن، وتأتى أيام المحن، وإذا حكومة مصر تتنكر لابن مصر، وإذا وزارة مصرية تحارب ابن الثورة المصرية، لأن فتى الثورة «1919» كلف أن يقيم التمثال لشيخ الثورة «سعد زغلول»، فكان من إلغاء الاتفاق الذى تم بين مختار وبين حكومة الشعب، وكان ما كان من ضيق الوزارة الساقطة بهذا الفتى النابغة «وزارة إسماعيل صدقى»، ومن إسراع الحزن إلى هذا القلب الذى لم يكن يعرف الحزن، ومن اجتناب مختار للإقامة الطويلة فى بلده العزيز، لأنه لم يكن يطيق أن يرى هذا الذل».
يضيف طه: «طالت إقامة مختار فى أوروبا، وهنالك أخذ الحزن والمرض يسرعان إليه، ويلحان عليه، وكانت أنباء المحن التى تلم بمصر تصل إليه فى باريس، فلا تزيد ألمه إلا شدة ولا تزيد حزنه إلا حدة، ثم تلح الآلام والأحزان ويلح معها الجد والعمل على هذا الفتى الغريب، فإذا هو مريض فيما وراء البحار، وإذا هو معرض للخطر، وإذا هو يعالج فى مستشفى من مستشفيات فرنسا حتى إذا ثابت إليه الصحة بعض الشىء عاد إلى وطنه متعبا مكدودا لا حظ له من قوة ولا من نشاط، وإذا هو يأوى إلى مستشفى من مستشفيات القاهرة، وإذا حالته تزداد سوءا، وإذا مختار قد فارق الحياة، وإذا مصر حرمت علما من أعلام ثورتها، وبطلا من أبطال نهضتها وعنوانا من عناوين مجدها الحديث».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة