انتهيت من قراءة كتاب مهم للكاتب الراحل صلاح عيسى، هو "أفيون وبنادق.. سيرة سياسية واجتماعية لخط الصعيد الذى دوخ ثلاث حكومات"، والكتاب صدر فى سنة 2021 مُجمعًا بعد رحيل صلاح عيسى، الذى توفى فى2017 بعدما قاد خطًا مهمًا من الكتابة والتأليف فى التاريخ الاجتماعى لمصر، وهذا الكتاب كان قد نشره صلاح عيسى على حلقات فى سنة 1973.
والكتاب يقدم بالفعل دراسة اجتماعية وسياسية لمصر فى الأربعينيات من القرن العشرين، فهو لا يكتفى بالحديث عن "محمد محمود منصور سر الختمة" المشهور بلقب "الخط"، والذى كان حديث مصر فى النصف الثانى من أربعينيات القرن العشرين، ذلك الذى تحصن فى جبل درنكة بأسيوط ثم راح يفسد فى الأرض، حتى أن الملك فاروق بنفسه قد اهتم بالأمر وعاتب مدير أسيوط الشاعر عزيز أباظة لأنه عاجز عن القضاء عليه، ولا عن الصعيد وأحواله فى ذلك الزمن، لكنه حديث عن مصر كلها وما جرى فيها.
فى الكتاب يقدم صلاح عيسى دراسة للمجتمع المصرى فى ذلك الوقت، هذا المجتمع الذى جعل فى الدولة ما يطلق عليه "أولاد الليل" وكشف عن الصراعات التى جعلت الحكومات فى ذلك الوقت هشة، لا تقوى على مواجهة مجموعة من الخارجين على القانون.
يملك صلاح عيسى قدرا كبيرًا من المعلومات حتى فى أدق التفاصيل، ويسمح لنفسه بأن يتخيل السيناريو الذى جرى، ويربط بين الشخصيات الكثيرة فى الكتاب، فنجد فى النهاية قصة مكتملة بكل أطرافها وأماكنها.
بالطبع هو لا يدفعنا للتعاطف مع "الخط"، بل يدينه على طول الطريق، لكنه لا يمنع سؤلا يقول: ما الذى يجعل إنسانا كان صيادا فقيرا يصل لهذه الدرجة، ويتحول إلى وحش حقيقى يعيش على القتل والدم والأفيون والسلاح والغدر والنهب والسلب وفرض الإتاوات ومواجهة السلطات؟
رأى صلاح عيسى أن الصعيد كان فقيرا جدا، حيث مجموعة قليلة من الناس يملكون كل شيء، والغالبية العظمى لا يملكون شيئا بالمعنى الفعلي، وكانت السلطة لا تحمى ضعيفا ولا ترد حقا، والساسة مشغولون بأحزابهم وواضعو القوانين لا يهتمون بالصعيد ولا بناسه، لذا خرج الأمر عن حدوده وشاع فى الأرض الفساد.
ومما أضافه الكتاب وأشار إليه أن "الخط" لم يكن نشازا فى البيئة هناك، فالصعيد تقريبا كان ممتلئا بأولاد الليل الذين استعرض صلاح عيسى عددا كبيرا منهم، وأفصح عن شخصياتهم وما يميزهم عن الآخرين، بل إنه استعرض حياة امرأة تدعى "جلشان" طاردت أحد أعتى أولاد الليل فى الصعيد ويدعى "أبو هاشم".
الكتاب دراسة لوطن فى مرحلة صعبة، مرحلة سبقت ثورة 23 يوليو 1952، وفيه يلقى الضوء على الملك وسلوكه والحكومات وأفاعيلها، يكفى أنه رصد كيف تعاملت الصحف التابعة للحكومة والأحزاب مع مقتل الخط لنعرف أى خطر كان يحدق بالوطن فى ذلك الوقت.
ويظل صلاح عيسى كالعادة يمتلك الحس الروائى الشيق الذى لا يجعل الملل يقترب من كتابه، ويملك القدرة على قراءة التاريخ واستنطاقه، كما يملك الوثائق اللازمة التى تنطق بالمعلومات التى يجيد توظيفها وتقديمها، فتدب الحياة فيما يكتب وتعود الأحداث التى ولت وتسترجع الروح التي خبت فى الشخصيات، فيأخذ الكتاب بعقل القارئ ولا يتركه.