«كان السفير كمال الدين صلاح مندوب مصر فى مجلس الأمم المتحدة بالصومال يعبر الشارع أمام بيته بالعاصمة «مقديشو»، وفجأة هجم عليه رجل يحمل سكينا طويلا، وطعنه فى ظهره، وظل يطعنه إلى أن سقط مضرجا بدمائه، وتمكن بعض الذين رأوا الحادث من القبض على القاتل، أما «صلاح الدين» فكانت لديه بقية من قوة مد بها يديه إلى الوراء وانتزع السكين المغروس فى ظهره، وعندما وصلوا به الى المستشفى، أسلم الروح فى 16 أبريل، مثل هذا اليوم، 1957 وفقا للكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين فى كتابه «مؤامرة فى أفريقيا».
كان كمال الدين صلاح، من طراز وطنى ودبلوماسى فريد، ولد يوم 28 مايو 1910، وبدأ حياته مناضلا فى الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل، حسبما يذكر فتحى رضوان، فى كتابه «نصف قرن بين السياسة والأدب»، وفى عمله الدبلوماسى تنقل من عاصمة إلى أخرى منذ تعيينه بالقدس عام 1936، وفى إبريل 1954 كان قنصلا لمصر فى مرسيليا ثم تلقى قرار الحكومة المصرية بنقله إلى الصومال ليكون ممثلا لمصر فى لجنة ثلاثية مكونة من مصر وكولومبيا والفليبين، وشكلها مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة، وتقيم هذه اللجنة فى الصومال لمراقبة عملية نقله من مرحلة الوصاية إلى الاستقلال، وكان الصومال الخاضع للسيطرة الإيطالية ضمن 11 دولة أغلبها من أفريقيا يقعون تحت هذه الوصاية.
يذكر «بهاء الدين» أن كمال الدين صلاح، ظن فى البداية أنه سيحيا حياة هادئة فى الصومال، لأنه بلد صغير فقير لم يعرف العالم عنه أنه يثير مشاكل من أى نوع، وأن الوصاية ستنتهى فى عام 1960 يصبح بعدها مستقلا، وسافر بهذا التصور، ولم تمض أسابيع قليلة حتى وقع فى غرامها، ووقع أهلها فى غرامه.
تجول فى أنحاء الصومال أسبوعين قطع خلالها ثلاثة آلاف ميل بسيارة جيب، واختلط خلال الرحلة بالأهالى وتحدث إليهم وصلى معهم فى المساجد وخطب فيهم شارحا وضع بلادهم والدور الذى يجب أن يقوموا به ليحققوا استقلالهم، ويسجل مشاهداته وانطباعاته عن الصومال وأهلها فى رسالة إلى زوجته، يذكر بهاء الدين نصها، وقال فيها: «كثيرون هنا يعيشون على الفطرة كيوم هبط جدنا آدم إلى الأرض، وعشرات الألوف فى الغابات والمراعى شبه عرايا، ليس على أبدانهم سوى ما يستر عوراتهم ويأكلون مما يحصلون عليه من جيد الغابة وألبان الإبل والأغنام، وفى المناطق الصحراوية والمراعى يبيت الناس فى العراء، وقد يكون لسلطة القبيلة أو زعمائها أكواخ من القش وفروع الأشجار، وحتى العاصمة مقديشو، أحياء الوطنيين فيها فقيرة كئيبة، ورغم أن هناك مساحات واسعة من الأراضى تصلح للزراعة، فإن أغلب الناس منصرفون عنها، فهم لا يعرفون طرق الزراعة ويعجزون عن مجاراة الإيطاليين الذين يزرعون المناطق القريبة من النهرين بالآلات الحديثة».
يكشف كمال صلاح الدين فى رسالته إلى زوجته: «هؤلاء الفقراء الذين يأكلون من صيد الغابات يتقدمون فى فهمهم السياسى والقومى بشكل عجيب، ففى أقصى الغابات وجدت واحدا عنده راديو بطارية يسمع منه الآخرون نشرات الأخبار، ووجدتهم يعرفون أخبار مصر معرفة دقيقة، إنهم يتتبعون مواجهة الجلاء والحلف العراقى التركى وسفر جمال عبدالناصر إلى مؤتمر باندونج، إنهم يتعلقون بمصر تعلقا شديدا وينتظرون منها أن تساعدهم».
هذا الغرام جعله يعمل كل جهده من أجل هذا البلد، ووفقا للدكتور محمد عبدالمؤمن عبدالغنى، فى كتابه «مصر والصراع حول القرن الأفريقى «-1954 1981»: «كان له دور كبير خلال فترة عمله التى استمرت ثلاث سنوات تقريبا، وكان نشاطه مع الصوماليين كبيرا فى توعيتهم ضد سياسة الإدارة الإيطالية التى تخالف مصالح الصومال، وكان يخلق رأيا عاما داخليا ضد مآرب إيطاليا، وتم ذلك من خلال جهود مصر فى مجال الدعوة الإسلامية ودعم اللغة العربية، وهدد خطط إيطاليا لربط الصومال بها بعد استقلاله».
فى ضوء ذلك حاربته إيطاليا، وشجعت الجماعات الصومالية المرتبطة بها على مضايقته، ويعبر عن ذلك فى خطاب إلى زوجته: «بعض المسؤولين هنا يتعمدون مضايقتى والإساءة إلى حتى تصبح إقامتى غير محتملة»، لكن ووفقا لبهاء الدين: «تتضاعف قوته لأن أبناء الشعب الصومالى المخلصين يقدرون جهاده ويعتبرونه واحدا منهم».
لم تجد إيطاليا وأعوانها أمام ذلك إلا الاغتيال وسيلة للتخلص منه، وفى يوم 16 إبريل 1957 أثناء عبوره الشارع أمام بيته، هجم عليه شخص يدعى «شيخ عثمان» بسكين طويل طعنه به فى ظهره، وتمكن بعض الذين رأوا الحادث من القبض على المتهم، وبالرغم من قدرة «كمال الدين» على انتزاع السكين، ونقله إلى المستشفى، إلا انه أسلم الروح فيه، وودعه الصوماليون فى جنازة مهيبة وصلوا عليه فى مبنى البرلمان، ورافق جثمانه إلى مصر وفد صومالى قابل الرئيس جمال عبدالناصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة