اجتمع الشيوخ وزعماء الجند، وأجمعت آراؤهم على تعيين خورشيد باشا واليا على مصر، وتعيين محمد على قائم مقام، وأفدوا رسولا إلى خورشيد بالإسكندرية، حيث كان محافظها يدعوه إلى الحضور إلى القاهرة ليتولى منصب الولاية، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر».
وصل خورشيد إلى بولاق فى أواخر مارس 1804، وفقا للرافعى، موضحا: «هو خامس من تقلد ولاية مصر فى نحو سنتين، أولهم خسرو باشا وقد خلع، ثم طاهر باشا وقد قتل، ثم أحمد باشا وقد طرد، ثم على باشا الجزائرلى وقد قتل، ثم جاء خورشيد وفى عهده قامت الثورة التى ستقود محمد على إلى ولاية مصر»، وطوال الفترة السابقة على ولايته، كان يرسم ويدبر ويناور بدهاء كبير يساعده على ذلك طبيعة شخصية خورشيد التى يصفها الرافعى، قائلا: «كان سيئ الرأى، فاسد التدبير، ميالا إلى الظلم غير مكترث بميول الشعب، معتمدا على القوة الغشوم».
وفيما كان محمد على يمضى بدهائه فى خططه، كان خورشيد يدبر له المكايد بمساعدة الباب العالى للتخلص منه كمنافس على السلطة، ويأتى الرافعى بأمثلة على ذلك.. يذكر أن محمد على سار إلى الصعيد لقتال المماليك على رأس جنوده الأرناؤد وعددهم 3 آلاف، يعاونه جيشان، الأول يتبع خورشيد وعدده 4 آلاف، والثانى بقيادة حسن باشا وعدده 1200 مقاتل، وأثناء ذلك طلب خورشيد من الحكومة العثمانية إمداده بقوات جديدة للتخلص من محمد على، فأرسلت إليه جيشا من الدلاة، ويفسر الرافعى معنى «الدلاة» قائلا: «هى جمع ديلى، وهى كلمة تركية معناها المجنون، وأطلقت كلمة دلاة أو دلانية على هذا الجيش لشهرة رجاله بالتهور فى البسالة، ومعظمهم من الأكراد».
يذكر «الرافعى» أن محمد على وصله نبأ قدوم الدلاة، فرأى أنه هو المقصود، فعجل بالعودة إلى القاهرة من الصعيد ومعه زميله حسن باشا، ويؤكد الرافعى، أنه رغم أن غرض خورشيد من الاستعانة بجيش الدلاة كان التغلب على محمد على، لكن هذا الجيش كان السبب فى القضاء المبرم على سلطته هو، فكيف حدث ذلك؟.
يجيب «الرافعى»: «كان جيش الدلاة مؤلفا من ثلاثة آلاف مقاتل من أردأ عناصر السلطة العثمانية، فأخذوا يعيثون فى الأرض فسادا، ويرتكبون الجرائم ويعتدون على الأموال والأرزاق والأرواح»، ويستشهد بقول الجبرتى عنهم: «دخلوا بيوت الناس بمصر وبولاق وأخرجوا منها أهلها وسكنوها، وكانوا إذا سكنوا دارا أخربوها وكسروا أخشابها وأحرقوها لوقودهم، فإذا صارت خرابا تركوها وطلبوا غيرها ففعلوا بها كذلك، حتى عم الخراب سائر النواحى، وخصوصا بيوت الأمراء والأعيان وباقى دور بركة الفيل وما حولها من بيوت الأكابر وقصورهم».
كان خورشيد يساعدهم على هذه المظالم، ولما عرف أن محمد على راجع إلى القاهرة، سعى إلى استمالة العلماء إليه، فاجتمع بعمر مكرم وقادة الجهادية فى 11 إبريل 1805، وقال لهم إن محمد على وحسن باشا راجعان من الوجه القبلى من غير إذنى، فإما أن يذهبا إلى بلادهما أو يتوليان ولايات ومناصب فى غير مصر، وقال إن لديه أمرا من السلطان بعزل وتولية من يشاء.
وصل محمد على وحسن باشا بجنودهما إلى طره، ويذكر«الرافعى» أن خورشيد باشا أرسل إلى طره قوة من الدلاة لصدهما عن التقدم، لكن محمد على بدهائه وحسن سياسته استطاع أن يجتاز هذا الموقف دون أى مقاومة تذكر، فماذا فعل؟.. يذكر «الرافعى»، أن محمد على لما اقترب من طره، طلب أن يقابل ضباط من الحامية للتحدث إليهم فأجابوه، ثم تبسط فى الكلام معهم وتحدث إليهم حديثا وديا، وقال لهم إن الباشا «خورشيد» لم يدفع للجنود رواتبهم المتأخرة وقد جئنا لنطالبه بها، فهل يضركم ذلك؟.. فأجابوا: كلا.
يؤكد «الرافعى»، أن حجة محمد على كانت قوية ومقنعة، وارتاح إليها ضباط الدلاة الذين يتحدثون إليه، لأنهم رأوا أن المطالبة بالرواتب لاتهم جنود محمد على الألبان وحدهم، بل تهمهم أيضا، وإذا وجب قتال جنود محمد على لأنهم يطالبون بحقهم، فسيفعل الوالى خورشيد معهم إذا هم طالبوا برواتبهم، فأجمعوا رأيهم ألا يتعرضوا لجيش محمد على، وأخلوا له الطريق، فوصل سيره حتى بلغ القاهرة سالما، ونزل فى داره بالأزبكية فى 19 إبريل، مثل هذا اليوم، 1805، ليبدأ الصراع بينه وبين خورشيد وجها لوجه.
يذكر «الرافعى»، أن محمد على وجد أن قوته فى كسب المعركة والوصول لقمة السلطة تأتى من الشعب، فبالغ فى استمالة علماء المدينة وأعيانها واستنكار تصرفات الوالى، وكان الشعب يعتبر الوالى مسؤولا عن فظائع الدلاة ومظالمهم، لأنه هو الذى جلبهم لتأييد سلطته، فأخذ تيار السخط ينحدر نحو الوالى، ولم يبق بين السخط والثورة إلا أن تقع حادثة تشعل نار البركان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة