ربما كان الجانب الإنساني، أحد أهم الأولويات التي وضعتها الدولة المصرية، على عاتقها في عهد "الجمهورية الجديدة"، منذ ميلادها، إلا أنها كانت حريصة على إرساء رؤيتها، وبصمتها، في هذا الإطار، بعيدا عن الأفكار النمطية، والتي تحولت على إثرها المفاهيم الحقوقية إلى مجرد مبادئ صماء، ترتبط في أغلب الأحيان بأهداف السياسة وتوجهاتها، وهو ما يعكس الاستخدام المتواتر لكلمة "حقوق الإنسان"، من قبل القوى الكبرى، للضغط على الدول، من أجل توجيه بوصلتها، أو تغيير توجهاتها ومواقفها من مختلف القضايا، بحيث تدور في فلك واحد، يصب في صالح تلك القوى والحفاظ على مكانتها، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار حقيقة مفادها أن الهيمنة الأحادية اعتمدت نهجا قائما على "عولمة" المبادئ، وفي القلب منها تلك المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرهما.
ارتباط المفاهيم الإنسانية بأهداف السياسة والهيمنة المطلقة، ساهم بصورة كبيرة في تجريدها من معانيها، خاصة مع صعود حالة من الازدواجية بين ما تدعو إليه القوى الدولية الحاكمة للعالم، من جانب، وممارساتها الفعلية، في الكثير من المواقف، سواء على أراضيها، أو في تلك المناطق التي سيطرت عليها بالقوة العسكرية، محملة بوعود شفهية براقة، في الوقت الذي تجاوزت فيه الانتهاكات المرتكبة أدنى حدود الإنسانية أو الأعراف، وبالتالي كانت الحاجة ملحة إلى إعادة هيكلة المفهوم، أو بالأحرى "إعادته إلى أصله" لاستعادة الثقة به، بعدما أصاب الشك الجميع من الجدوى وراء استخدامه في العديد من المحافل الدولية، من خلال احترام آدمية الإنسان، وضمان حياة كريمة له ولأسرته، ناهيك عن تأهيله ليكون عنصرا فاعلا في المجتمع.
ربما يبقى تحويل المفاهيم الحقوقية، من صورتها الصماء، نحو مزيد من الحيوية، تجلى في العديد من المشاهد، التي تبنتها الدولة المصرية في السنوات الماضية، ربما أبرزها المبادرات الرئاسية، وعلى رأسها "حياة كريمة"، والتي وفرت مساكن آدمية لألاف البشر، بالإضافة إلى العمل الجاد نحو تأهيل الشباب ليكونوا وقودا لعملية التنمية وتأمين حقوق المرأة، وتقديم الدعم المطلق لـ"ذوى الهمم"، بينما ركزت كذلك إلى إعادة هيكلة السجون، لتتحول من مجرد "عقاب"، إلى تأهيل، يمكن من خلالها بناء أشخاص صالحين يمكنهم خدمتهم مجتمعاتهم وبناء دولتهم والمشاركة في رسم مستقبلها.
إلا أن الجهود التي تبنتها الدولة المصرية لإرساء أبعادا جديدة للمفاهيم الحقوقية، ربما لم تقتصر على مشروعات ومبادرات، وإنما امتدت إلى جوانب أخرى تبدو أكثر حيوية، تتجلى في مواقف، تحولت بحكم التكرار إلى "عرف"، أقدم عليها كبار رجال الدولة، وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذى يضع على عاتقه مسؤولية بناء الإنسان، جنبا إلى جنب مع بناء الدولة، وهو ما يبدو في احتفالية العيد، بين أسر الشهداء وأطفالهم، والتي تحولت إلى حالة أشبه بـ"العرف"، تمتزج فيه الرسمية "البروتوكولية"، والتي تتجلى بوضوح في التكريم وتسليم الهدايا التذكارية وشهادات التقدير، مع ملامح إنسانية، تحمل في طياتها "بروتوكولا" جديدا، تبدو أطول عمرا في الذاكرة، تتجسد في لحظات يقف فيها رأس الدولة بين الأطفال، مداعبا إياهم، ومتحدثا معهم، بل ويشاركهم لحظات من المرح، في مشهد يبدو استثنائيا ليس في مصر وحدها.
فلو نظرنا إلى مشهد "العيد" بين الرئيس وأطفال الشهداء وأسرهم، ربما نستلهم العديد من الفضائل، التي تجد مرجعيتها في الأديان السماوية، أبرزها تعزيز روح المحبة والتآخي والمؤازرة، بالإضافة إلى فضيلة الاعتراف بجميل أولئك الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الوطن وأمنه واستقراره وأهله، ناهيك عن تحقيق بهجة الأطفال، لنجد في نهاية المطاف أن تلك المشاهد تمثل تطبيقا عمليا للمفاهيم الحقوقية، خاصة تجا بعيدا عن حصرها كمجرد موضوعات للتنظير السياسي، والجدل، لعقود طويلة من الزمن.
وهنا يمكننا القول بأن المفاهيم الحقوقية تشهد تحولات كبيرة من الجانب النظري "المسيس"، إلى الواقع العملي التطبيقي، من وجهة النظر المصرية، عبر مسارين، أولهما يدور حول تحقيق أكبر قدر ممكن من "الحياة الكريمة" للمواطنين، عبر توفير الحياة الآدمية للمعدمين منهم، بينما تمنحهم الأمل في حياة أفضل في المستقبل، عبر تأهيلهم للمشاركة في العملية التنموية، بينما يبقى المسار الثاني قائما على ما يمكننا تسميته بـ"البروتوكول" الإنساني، في ظل حرص الدولة، والرئيس السيسي على إرساء "أعراف" تحمل في طياتها دروسا إنسانية عملية، حول الكيفية التي ينبغي أن ينظر بها إلى مفهوم حقوق الإنسان بأبعاده المختلفة، بل والعمل على إنقاذه من عملية تشويه ممنهجة ساهمت فيها حالة الخلط التي مارستها العديد من الدول حول العالم بين الإنسانية والسياسة.