حازم حسين

أُخوّة «العيش والملح».. مصر تفرح فى المطرية وتطمئن فى الأسمرات

الأحد، 09 أبريل 2023 01:48 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كثير من الأمور تتّخذ شكل العهود والمواثيق فى ثقافة المصريين، كالجيرة والزمالة وكلمة الشرف، لكن يظل الطعام واحدا من أوثق تجلّياتها، حتى أن الوعى الجمعى يُقدّس «العيش والملح» ويعتبره رباطا يُقارب رباط الرحم والدم، ويُوجب الإخلاص والأمان والتكاتف وتقاسم الأفراح والأتراح، لهذا تحضر المائدة الواحدة فى البهجة والحزن، فى الأعياد والملمّات، وفى الأيام الصعبة أو المباركة، ورمضان أوضح إشارة إلى تلك الفلسفة الموروثة من الأجداد فى مصر القديمة حتى الآن، واضعة أُخوّة المأكل سندا وظهيرا لأخوّة الوطن والعقيدة والطقوس والآمال والأحلام المشتركة.
ربما انطلاقا من تلك الدلالة أرسى الرئيس السيسى تقليدا محمودا منذ وصوله إلى سدّة الحكم، بالتقاء مُمثّلين عن مكوّنات المجتمع المصرى بثراء هويّته وتنوّع مشاربها على مائدة «إفطار الأسرة المصرية»، وبالمثل فى سياق موازٍ بدأ أهالى حى المطرية تقليدا رمضانيا مُبهجا بتنظيمهم إفطارا جماعيا يمتد مئات الأمتار ويضم آلاف الأصدقاء والجيران، المصادفة جمعت الحدثين مؤخرا فى يوم منتصف رمضان، بدا المشهد مُختلفا اتصالا بطبيعة المكان والتنظيم، لكن كانت المائدة واحدة فى الروح والغاية: مصر أُسرة كبيرة مُتماسكة دائما، تُترجم وحدتها فى صور عديدة من التضامن، وتصفو المودّة بين ناسها على مائدة الحوار والطعام، لأن بيننا لغة واحدة ولو تخيّل الجاهل بطبيعتنا غير ذلك، ولأننا نحفظ حق «العيش والملح» ونعرف كيف نصونه ونبقيه رسولا بين القلوب ودليلا على حُسن العشرة وصفاء النفس.
 
نحو 1000 سنة عبرتها طقوس رمضان فى دلتا النيل حتى اكتسب الشهر طابعا مصريا خالصا، تقاليد عدّة بدأت منذ الدولة الفاطمية واستمرت أو تطوّرت أو أُعيد تكييفها بما يُناسب الزمن وتحوّلات الثقافة والاجتماع، لكن ظلت نكهة «رمضان مصر» مُميزة عن غيره من رمضانات العالم، وفى أحلك الظروف والفترات لم يتخلّ المصريون عن عاداتهم فى البهجة والزينة والتجمّعات والسهر والمسحراتى وأطعمة رمضان وموائد الرحمن، تلك الموائد على التحديد لها دلالة اجتماعية أعمق من شكلها الظاهر، فالأمر يتجاوز مسألة التكافل وفعل الخير وصولا إلى فكرة الأسرة الواحدة، والإيثار وبذل الجهد والمال لخدمة آخرين لا نعرفهم دون انتقاء أو فرز، وهذا بالتحديد يُعاكس كل محاولة لضرب الجدار الاجتماعى الصلب لمصر، أو النفاذ من نسيج المصريين بأدوات التفرقة والأيديولوجيا والنعرات المذهبية أو الجهوية ومحاولات الاستهداف داخليّا أو خارجيّا، هكذا قد تبدو دلالة مشهدى «المطرية وإفطار الأسرة المصرية» أوضح وأعمق، فى طبعة 2023 كما فى كل الطبعات السابقة.
 
كانت مصر فى 2015 تناضل لاستعادة استقرارها، وتخوض حربا مفتوحة مع الإرهاب ومحاولات ضرب السلم الاجتماعى وإضعاف مناعة الجبهة الداخلية، ترافقت دعوة «إفطار الأسرة المصرية» وقتها مع جهود شاملة من الدولة لإعادة بناء الصف وتعزيز تآزر المصريين، فى سياق مُتزامن تقريبا بدأ تقليد الإفطار الشعبى الحاشد فى شوارع المطرية، الحى الذى حاولت جماعات العنف اتخاذه مُرتكزا لإرهابها وشهد جولات من مساعى تأجيج الفتنة وشن حرب مفتوحة على الدولة، كان الأمر فى صورتيه الرسمية والشعبية رسالة واضحة وعميقة من دون اتفاق أو ترتيب مُسبق، مفادها أن الدولة تفتح ذراعيها لأبنائها جميعا إلا من خرج عليها مُعلنا العداء ومُستهدِفا أمن المواطنين، وأن أبناء البلد أنفسهم بنيان مرصوص، ثابتون فى المحبّة دون خوف أو اهتزاز، لا يتركون ثغرة لدخيل ولا يسمحون لرسائل الشرّ بالمرور والرواج.. وعلى امتداد مصر لم ينقطع تقليد الموائد الشعبية، العريق، رغم أجواء التوتر والاستهداف، وكأن البلد بكامله يجلس إلى مائدة واحدة لا نهائية، مؤكدا وحدة الصف وتضامن كل مكوناته من أجل مواجهة القبح والإجرام دفاعا عن وجه مصر الصافى الجميل!
 
حمل «إفطار الأسرة المصرية» رسائل إيجابية فى كل سنواته: من وعد الرئيس خلال يونيو 2015 بانتخاب برلمان جديد قبل نهاية العام، إلى الاحتفاء بأسر الشهداء وزيادة المعاشات وتأكيد الاهتمام بتنمية سيناء فى 2016، وزيادة دعم التموين نحو 150% للفرد فى 2017، ثم شكر الشعب على تحمّل برنامج الإصلاح الاقتصادى وتأكيد أن الإصلاح الإدارى لن يمس مصالح العاملين مع التبشير بتطوير التعليم وافتتاح مشروعات قومية جديدة بعد العيد فى 2018، والتذكير بتحديات استعادة الاستقرار وخطط التنمية والحديث عن تطوير منطقة مجرى العيون وطريق الكباش وإنفاق 400 مليار جنيه على سيناء وبدء تطبيق التأمين الصحى الشامل واستعراض إنجازات المبادرات الصحية الرئاسية 2019، وصولا إلى 13 قرارا فى 2022 أبرزها إطلاق دعوة الحوار الوطنى ومبادرات دعم وتوطين الصناعة وتطوير البورصة وتوسيع مشاركة القطاع الخاص فى الاقتصاد، وأخيرا حديث المصارحة والطمأنينة والأمل فى الأسمرات، بالتزامن كانت مائدة المطرية تُقدّم رسائل تضامن وبهجة شعبية سنويا، تؤكد بها أن الرباط الذى عقدته مصر بين أبنائها غليظ وراسخ فى نفوسهم رغم كل الظروف والتحديات.
 
كانت مائدة الأسرة المصرية، تستضيف كل فئات العائلة سنويا، لكنها بعدما باتت تقليدا راسخا وناضجا اختارت فى أحدث حلقاتها أن تحلّ بجَمْعها المُكتمل ضيفا على أهالى الأسمرات فى حياتهم الجديدة اللائقة، أما أهل المطرية فقد اتخذ تقليدهم شكلا أقرب إلى المؤسّسية، فظهرت هوية واضحة للمائدة الحاشدة بابتكار شعار للإفطار وظهور شباب التنظيم بأزياء موحدة ودهان واجهات البيوت وتلوينها بشعارات دافئة تُعبّر عن عنوان الأسرة الواحدة وفلسفة التضامن، رسائل الرئيس تُؤكّد مركزية فكرة المائدة الأسرية فى وعى الدولة، ورسائل الشارع قدّمت بُرهانا شعبيّا على ذلك، يجمعنا رمضان ببركته وروحانياته، لكن العقلاء يُدركون أن بقاء هذا الاجتماع وصيانته وتوطيد حضوره شرط للحفاظ على البركة، وصناعة البهجة، وامتلاك قدرة جماعية على العبور للمساحة الآمنة المطمئنة.
 
مشهد الإفطار فى الأسمرات لا يبتعد كثيرا عن حالة التآخى فى المطرية، ربما كانت المسافة بينهما أقرب من مسافة الطريق بين المنطقتين، ومشتركاتهما أكبر من عدد الموائد الشعبية والتجمعات العائلية من المقطم إلى شرق القاهرة وفى كل شوارع وبيوت مصر، كل التجارب السابقة أثبتت أن المصريين جميعا يقفون فى وقت الامتحان على قلب مصرى واحد، وكل عهود «العيش والملح» أكّدت أننا - رغم أية ظروف أو تحديات أو محاولات لشقّ صفوفنا - نجلس فرادى وجماعات مُطمئنين إلى مائدة واحدة، ونشبع ويثبُت اطمئناننا ويتضاعف خيرنا كلّما زادت اللمّة وتوطّدت العزوة، يقول المثل الذائع «لو صفيت النيّة اللُقمة تكفى مِيّة»، ولُقمة مصر المخبوزة بالمحبّة والأمل والتضامن والروح الحلوة الصافية تكفى الـ100 مليون وتفيض.






مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة