انطلق منذ قليل المؤتمر الدولي السنوي لمجمع اللغة العربية في دورته التاسعة والثمانين اليوم الإثنين 15 مايو 2023م بمقر المجمع بالزمالك، الذي جاء بعنوان "اللغة العربية بين الهوية القومية والعولمة"، وذلك بمشاركة رؤساء مجامع اللغة العربية والهيئات العليا للغة العربية في العالم العربي، فضلًا عن أكثر من عشرين عالمًا من أعضاء مؤتمر المجمع وأعضائه المراسلين من العرب والمستعربين.
وبدأت وقائع الجلسة الافتتاحية للمؤتمر بكلمة لـ د.عبدالوهاب عبدالحافظ (رئيس المجمع) أشار فيها إلى التحديات التي تواجهها العربية في واقعنا المعاصر، وأن الثورة المعلوماتية غير المسبوقة، والانفجار المعرفي الذي يعيشه العالم اليوم، وانفتاح نوافذ العالم وثقافاته بعضها على بعض عبر ذيوع وسائل الاتصال الحديثة، من أهم التحديات التي تواجهها العربية الآن، بل تواجهها القوميات المختلفة. واللغة هي المقوِّم الأساس للهويّة؛ ولذا فإن الحفاظ عليها ودعم وجودها تأكيد لدعم هويتنا وترسيخ لها في ظل العولمة التي تعمل على طمس الخصوصيّة القوميّة. من هنا يأتي مؤتمر المجمع في هذا العام تحت عنوان "اللغة العربية والعولمة والهويّة القوميّة" بهدف الخروج بتوصيات من شأنها نشر الثقافة اللغوية والوعي.
وفي كلمته الموجهة إلى مؤتمر المجمع أكَّد د.محمد أيمن عاشور (وزير التعليم العالي والبحث العلمي) أن موضوع مؤتمر المجمع في هذه الدورة المجمعية يمس قضية جوهرية في حياتنا الثقافية المعاصرة، فلغتنا العربية ليست مجرد أداة للتواصل اليومي فحسب، لكنها مقوِّم أساسي وفعال من مقومات هويتنا ووجودنا الإنساني والجغرافي، وما تواجهه اليوم في ظل أمواج العولمة العاتية التي نراها تعصف بالهويات، وتذيب الخصوصيات القومية للأمم، إذ تبدأ أولًا بمزاحمة اللغات الأصيلة وإحلال غيرها؛ الأمر الذي قد يؤدي – إذا استمر الأمر على هذه الوتيرة - إلى القضاء على التنوّع اللسانيّ في العالم، وقد لا تتوقف عند ابتلاع ثقافات الأمم والشّعوب. من هنا تأتي أهمية هذا المؤتمر في هذا التوقيت؛ لدعم اللغة العربية والحفاظ عليها وحمايتها والعمل على تنميتها ونشرها، وهذا لا يعني إهمال تعليم اللغات الأجنبية وإتقانها والاستفادة القصوى منها في حدود الحاجة إليها، شريطة ألا يكون ذلك على حساب اللغة العربية التي تُعَدّ من أهم المقومات على المستوى الوطني والقومي التي تحفظ هويتنا الثقافية والقوميّة.
وفي كلمته شدَّد د.محمود السيد (رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق) على أن اللغة هي محور الثقافة وحاملتها والمعبرة عنها، والمحقِّقة وحدة المجتمع وتجانسه وتماسكه، وأن تعزيز الهوية الثقافية والمحافظة عليها وتعميق جذورها لا يتنافى مع الانفتاح على الآخر، والحوار معه، والأخذ من إيجابياته، وهذا ما انتهجته أمتنا من قبلُ، وأن اللغة والهوية وجهان لعملة واحدة، ومعرفة اللغة أهم ركيزة لتحصين الهوية القومية، والذات، والشخصية، والإحساس بالانتماء القومي؛ ذلك لأن قلب الشعب ينبض في لغته، واللغة هي روح الأمة وحياتها، ومحور القومية وعمودها الفقري، وأن حياة الأمة تقوم قبل كل شيء على لغتها؛ لأنها إذا نسيت تاريخها فإنها تفقد شعورها، وتستطيع أن تستعيد وعيها وشعورها بالعودة إلى تاريخها القومي، ولكنها إذا فقدت لغتها فإنها تفقد الحياة، وتغدو في عداد الأموات.
وأشار د.محمود السيد إلى أن لغتنا العربية تواجه تحديات عدة في ظل العولمة التي يروم أصحابها إبعاد العربية واعتماد الإنجليزية مكانها في العملية التعليمية التعلمية بحجة قصورها عن استيعاب النهضة العلمية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانوا يروِّجون للغة العامية على أنها لغة الحياة، وليست العربية لغتها، وغنيٌّ عن البيان أن الهدف من ذلك كله هو إحياء ما يفرِّق بين أبناء الأمة الواحدة، والعامية تفرِّق بين أقطارها حتى إنها تفرِّق بين أبناء القطر الواحد، في الوقت الذي يرومون فيه وأد كل ما يوحِّد بين العرب، واللغة موحِّدة وموحَّدة، ولا يتصورون أن يكون العرب في وحدة مجتمعية تقف في وجه أطماعهم ومصالحهم! فليوجِّهوا سهامهم إلى العروة التي تجمعهم، والرابطة التي تضمهم كافة ألا وهي اللغة العربية. ومن الاختراقات التي حدثت في ظل العولمة عقد مؤتمرات علمية على الأرض العربية اعتمدت فيها اللغة الأجنبية في منأى عن استخدام العربية حتى لو كانت الموضوعات المطروحة عربية، ولا ضيرَ من اعتماد اللغتين الإنجليزية والعربية إذا كان ثمة أجانب يحضرون فيها.
وأشار د.عبدالحميد مدكور (الأمين العام للمجمع) إلى أن الدفاع عن اللغة العربية واجب على العرب جميعًا، حاكمين ومحكومين؛ لأنها مقوِّم من مقومات وجودهم، وعامل قوي من عوامل وحدتهم وقوتهم؛ ومن ثم يكون التفريط في ذلك الرابط تفريطًا في وحدتهم واستقلال شخصيتهم وإرادتهم، وهو يؤدي إلى أن تفقد الحضارة العربية بُعْدها التاريخي، وتراثها الحضاري، وإسهامها الكبير في بناء المعارف الإنسانية، كما حدث مع لغات كانت يومًا ما ذات حضارة وثقافة ثم اضمحل هذا كله كالسريانية والآرامية وغيرها.
وأكَّد د.مدكور على أن غياب اللغة يؤدي –بالنسبة للفرد العربي– إلى أن يستشعر الاغتراب عن ثقافته العربية الراسخة وماضيه العريق، كما يؤدي إلى الوقوع في هاوية التبعية لهويات وثقافات غريبة عنه، لا يجد فيها نفسه وذاته، ولا أمْنه النفسي وسكينته الروحية؛ ومن هنا يجب على الأمة العربية كلها أن تحافظ على كيانها وهويتها وأصالتها وتاريخها وحاضرها من أجل بناء مستقبلها بالطرق التي تناسبها، وأن تقاوم كل التحديات التي تواجه لغتها العربية، ومنها تحدي العولمة التي تسعى إلى فرض لغات بعينها كالإنجليزية والفرنسية والروسية وأمثالها، وتعمل على فرض هيمنتها على الفكر والثقافة واللغة، بحيث تترك الشعوب لغتها، لتُحلَّ هذه اللغات الوافدة محلَّها، وهذا يؤدي إلى التبعية الثقافية، ومن بعدها التبعية الاجتماعية والسياسية وغيرها.
من الجدير بالذكر أن مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة-الذي يستمر لمدة 6 أيام- يُعقد هذا العام عبر تقنية الـ(zoom) للسادة المشاركين من خارج مصر؛ حيث يشارك عدد من رؤساء مجامع اللغة العربية والهيئات العليا للغة العربية في العالم العربي، ويناقش المؤتمر في جلساته المغلقة عددًا من المصطلحات اللغوية والعلمية المقدَّمة من لجان: الكيمياء والصيدلة، والعلوم الشرعية، وعلوم البيئة، والرياضيات، ولغة الشعر العربي، والطب، والتربية وعلم النفس، والألفاظ والأساليب، واللهجات والبحوث اللغـوية، والحاسبات، والفيزياء، والإعلام، وعلوم الأحياء والزراعة، والهندسة، والجيولوجيا، والنفط، كما يناقش مواد من حرف (الطاء) من المعجم الكبير.
ويختتم مؤتمر المجمع فعالياته يوم الأحد 21 مايو 2023م، بتقرير ختامي عن أعمال المؤتمر لـ د. عبد الحميد مدكور (الأمين العام للمجمع)، يعقبه الإعلان عن القرارات والتوصيات، ثم كلمة أحد الأساتذة من أعضاء المؤتمر من غير المصريين، ثم كلمة ختام الجلسة لـ د. عبد الوهاب عبد الحافظ (رئيس المجمع).
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة