في الوقت الذي يمثل فيه الحوار الوطني، بصورته الحالية، بمثابة فصل جديد في تاريخ الحياة السياسية في مصر، في ظل توقيته المتزامن مع العديد من المعطيات المرتبطة بالأزمات العالمية وتداعياتها على الداخل المصري، والكيفية التي يدار بها، بحيث يخرج من دائرة الاسترضاء لأطراف المعادلة المصرية، ليتحول إلى "شراكة" حقيقية بينهم، فيما يتعلق بمجابهتها، إلا أنه يمثل في جوهره فرصة مهمة لرسم "خارطة" طريق للمستقبل، في ظل إدارة العلاقة بين مختلف الأطراف، سواء السياسية أو المجتمعية أو الاقتصادية، بالإضافة إلى مؤسسات الدولة، وهو ما يمثل في حد ذاته اختراقا مهما، في ضوء تعقيدات هذه العلاقة، والتعارض الكبير في المصالح، والذي بدا بصورة كبيرة، في التجارب السابقة، مما ساهم في عدم قدرتها على الوصول إلى النتائج المرجوة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وبين الحاضر بأزماته والمستقبل بطموحاته، تبقى التساؤلات الملحة حول العديد من الأبعاد المرتبطة بما سوف يؤول إليه الحوار، بين الشارع المصري المتطلع إلى حلول قوية لأزمات تطارده، في اللحظة الراهنة، جراء أوضاع، تبدو مستوردة، في جزء منها جراء الأوضاع العالمية، وفي القلب منها الأزمة الأوكرانية، بينما يبقى بعضها الآخر جراء سنوات الفوضى التي أعقبت "الربيع العربي" في أوائل العقد الماضي، وما نجم عنها من حالة من "الشلل" التام لكل أدوات الإنتاج من جانب، وما يتطلع إليه المشاركون من صياغة للمستقبل، في ظل رغبة ملحة في بناء حياة سياسية سليمة، تلعب فيها الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وكافة فئات المجتمع دورا جوهريا في بناء "الجمهورية الجديدة"، بعيدا عن "لعبة" المصالح الضيقة التي ربما هيمنت على الرؤى التي تبنتها تلك المؤسسات في الماضي.
والمقاربة بين الحاضر والمستقبل، مع النظر إلى أخطاء الماضي في التجارب السابقة لتداركها، ربما تحتاج إلى توسيع نطاق الرؤية بين المشاركين في الحوار، بحيث تنطلق من دراسة الداخل وأزماته وأوضاعه الحالية، إلى الأوضاع العالمية التي تتمخض عن حقبة دولية جديدة، تتغير فيها العديد من المعطيات السياسية والاقتصادية، ليس فقط على مستوى الهيمنة الأحادية، وصعود قوى جديدة يمكنها مزاحمة الولايات المتحدة على قمة النظام العالمي، على غرار روسيا والصين، وهو الأمر الذي لا يمثل أولوية مباشرة بين موضوعات النقاش داخل أروقة الحوار الوطني، وإنما أيضا فيما يتعلق بالمشهد السياسي في العديد من الدول الأخرى، والذي تأثر بالكثير من الأوضاع المتغيرة في إطار النظام العالمي بصورته الكلية، والذي يبقى في حاجة إلى دراسة متأنية، لمعرفة نقاط القوة والضعف في النماذج الأخرى، في ظل الأوضاع الجديدة.
فلو نظرنا، على سبيل المثال، إلى الأحزاب السياسية ودورها ومستقبلها، ربما نجد أن ثمة تغييرات كبيرة شهدتها دول العالم، وعلى رأسها دول عريقة في النظم الديمقراطية، في السنوات الأخيرة، أدت إلى تراجع دورها، وهو ما يبدو في صعود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قصر "الإليزيه"، من رحم حزب "الجمهورية إلى الأمام"، الذي تأسس قبل شهور قليلة من الانتخابات التي خاضها وفاز بها في عام 2017، على حساب أحزاب قديمة، لها تاريخ كبير في السياسة الفرنسية، وهو ما يعكس انعدام ثقة الشارع في تلك الأحزاب بسبب أخطاء كبيرة ارتكبوها، ربما أبرزها الاستئثار المطلق بالسلطة، خلال مدد ولايتهم، عبر التحصن بنتائج الصناديق، مما دفع إلى معارك كبيرة خاضها خصومهم السياسيين ضدهم، ساهمت في تأليب الشارع ضدهم، وهو ما ظهرت نتائجه في الانتخابات أولا، ثم امتدت بعد ذلك إلى التظاهر في الشوارع طلبا للتغيير، فى انقلاب على قواعد الديمقراطية الراسخة فى وجدان تلك الشعوب.
الأمر نفسه ينطبق على الولايات المتحدة نفسها، رغم كونها منارة الديمقراطية في العالم، في ظل معارك عدة تخوضها أحزابها العريقة في السنوات الماضية، ربما بدأت مع صعود الرئيس السابق دونالد ترامب إلى "عرش" البيت الأبيض، والذي وإن جاء إلى السلطة ممثلا عن الحزب الجمهوري، إلا أن نجاحه انطلق من نزعته المتمردة على الرؤى التقليدية التي طالما تبنتها السياسة الأمريكية، وفي القلب منها أسلافه الجمهوريين أنفسهم، بينما يبقى المشهد الحالي بين الكونجرس والرئيس جو بايدن، حول التعامل مع قضية "سقف الدين" الأمريكي، نموذجا آخر، ربما يثير مخاوف المواطنين في الولايات المتحدة، في ظل الأولوية التي يضعها كل فريق على عاتقه، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والمقررة العام المقبل، والتي تقوم في الأساس على المصلحة الحزبية، بعيدا عن الكيفية التي يمكن بها تجاوز الأزمات المحدقة بالداخل الأمريكي، جراء التضخم والغلاء والبطالة، وغيرها.
وهنا يصبح مستقبل الأحزاب السياسية في العالم على المحك، في ظل التغيير الكبير في المزاج العالمي تجاهها، عبر البحث عن وجوه جديدة، سواء في صورة أحزاب وليدة، أو شخصيات تحمل رؤى مخالفة للأحزاب التي يمثلونها، وهو ما يعكس تحولا مهما في الحياة الحزبية العالمية، وهو ما ينبغي الالتفات إليه خلال مناقشة الأوضاع الحزبية، في مصر، داخل أروقة الحوار الوطني، بحيث تتواكب الرؤية، مع التغييرات الكبيرة التي يشهدها العالم في هذا الإطار، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق حال بقاء سيطرة النزعة التنافسية في العلاقة بين الأحزاب، خاصة في الظروف الاستثنائية، والتي ينبغي خلالها تجاوز هدف "الوصول إلى السلطة"، نحو تحقيق أكبر قدر من التكامل، لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع.
ولعل المشاهد العالمية الأخيرة، تعكس نهاية ما يمكننا تسميته بـ"الديمقراطية الشرسة"، والتي اعتمدت الصراع في صورته السياسية بين الأحزاب، بديلا عن الحروب الأهلية، والتي هيمنت على جزء كبير من العالم في القرن التاسع عشر وامتدت لعدة عقود من القرن الماضي، إلا أن الأوضاع العالمية، جراء الأزمات الكبيرة التي باتت تناطح العالم، لم تعد تحتمل الصيغة الصراعية، في العلاقة بين أطراف المعادلة السياسية في دول العالم، لتتحول نحو ما يمكن اعتباره حالة من "الشراكة التنافسية"، التي يمكن فيها تحقيق قدر من الشراكة فيما بينهم، مع الاحتفاظ بقدر من التنافسية، تضع في الاعتبار الطموحات المرتبطة بكل كيان سياسي في دور أكبر في المستقبل، ولكن مع مراعاة الحفاظ على دور الشركاء، من أجل حياة سياسية أكثر نضجا واستقرارا في زمان تعصف به الأزمات من كافة الاتجاهات.
وهنا يمكننا القول بأن الحوار الوطني، وإن كان يحمل أولوية استكمال مسيرة الإصلاح في الداخل، وعبور أزمات الحاضر نحو بناء المستقبل، إلا أنه يبقى نموذجا يتواكب مع المعطيات العالمية الجديدة، في ظل العديد من التغييرات الكبيرة في المشهد العالمي في اللحظة الراهنة، والتي باتت ترتبط بعناصر السياسة والمجتمع، والتي طالها التغيير إلى حد كبير، في ظل ما يعصف بالعالم من أزمات صعبة وغير تقليدية، ليكون بمثابة رؤية جديدة للتحول في العلاقة بين هذه العناصر، من إطار الخصومة، نحو الشراكة.
مشاركة
الموضوعات المتعلقة