بث تليفزيون اليوم السابع، حلقة جديدة من برنامج السرداب، الذى يقدمه الزميل محمود حسن، وهذه الحلقة من خانقاة السلطان الأشرف برسباي، وتتناول أكبر مأساة في تاريخ مصر بكل تأكيد هي مأساة الطاعون، فمصر كانت تصاب بموجات قاسية وعنيفة من الطاعون كل فترة، وأحيانا كل عام.
وفى عهد السلطان الأشرف برسباي، عام 838 هجريا/ 1434 ميلاديا، أتت الأنباء من الشمال، من إسكندرية والبحيرة بقدوم الطاعون في "البحيرة والغربية"، وأنه أحصى ممن مات من أهل المحلة زيادة عن خمسة آلاف إنسان، وانتشر الخبر وتناقله الناس بفزع، وكما هو معتاد في هذه اللحظة، نودي في القاهرة بصيام ثلاثة أيام، وأن يتوب الناس من معاصيهم وأن يخرجوا من المظالم، وفى اليوم الرابع يخرجون إلى الصحراء ليتضرعوا إلى الله.
وخرج قاضي القضاة، في جمع موفور من الناس إلى الصحراء خارج القاهرة، فكثر ضجيج الناس وبكاؤهم ودعائهم وتضرعهم، ولما رجعوا وجدوا أن عدد الأموات تزايد، وبدأت في نيل مصر تطفوا الأسماك والتماسيح على وجه الماء ميتة ومصطبغة بالدماء، وفى الصحراء بين السويس والقاهرة وجدت الذئاب والغزلان نافقين في الصحاري!.
ثم تزايد الوضع سوءا، بيحكي لنا المؤرخ المصري "بن تغري بردي" في كتابه "النجوم الزاهرة في ذكر تاريخ ملوك مصر والقاهرة"، إن عدد الموتى في مصليات القاهرة أصبح يتجاوز الألفين متوفي كل يوم، ووصل الأمر إلى أن جماعة من الصيادين كان عدتهم 18 شخصا كانوا في مكان واحد، فمات منهم في يوم واحد 14 شخصا، فكفنهم الأربعة الباقين، وساروا بهم في جنازة، وأثناء سيرهم في الجنازة مات منهم 3، ولم يبقى سوى شخص واحد دفنهم جميعا، ومات بعدهم.
وانتشر الوباء في القرى والمدن، فيقول ابن تغري بردي إن في كفور المنوفية والقليوبية، كان يموت في الكفر الواحد 600 إنسان.
ووصل الأمر إلى أن بيوت كثيرة خلت من سكانها، ومات كثير من المماليك حتى إن "إقطاع" أو المملوك الواحد كان يتنقل في اليوم بين الأربعة جنود وخمسة.
ثم شهدت القاهرة أزمة في التوابيت ولم يعد هناك نعوش يحمل فيها الموتى، فأخذ الناس يحملون الأموات على الألواح، والأقفاص، وعلى الأيدي، ووصل الأمر أحيانا بأخذ "التوابيت" غصبا من الجنازات، أو إجبار المشيعين على حمل ميت آخر فوق التابوت اللى محمول عليه الميت، وارتفعت أسعار الأكفان وعز الناس إيجادها، ولم يعد بعض السلع موجودة في الأسواق لاعتقاد العامة أنها تداوي الطاعون، مثل "السكر، والرجلة، والكمثرى".
أما في مصلى "باب النصر"، واللى يطل على المقابر شمال القاهرة، فكان يتجاوز عدد الموتى أحيانا في الصلاة الواحدة أكثر من ألف إنسان، فكان الناس عقب صلاة الجنازة يخطئون في أخذ التوابيت، ويدفن كل واحد منهم ميتا غير ميته، ودي لم تكن المقابر الوحيدة، ففي مصلى آخر في "الرميلة" بالقرب من القلعة، كان يصلى في اليوم الواحد نحو 15 ألف إنسان!.
بيقول المقريزي: "كنا نخرج إلى الصلاة، فنجد أنه نقص منا عن الصلاة السابقة عدة كبيرة، ما بين ميت ومريض، واستسلم كل أحد للموت وطابت نفسه لذلك، وخلت مناطق كاملة في القاهرة، مثل سكان منطقة "الأباجية حاليا"، واللى كان فيها نحو 3 آلاف من السكان فنوا جميعا وماتوا بالطاعون.
بعد 15 يوم من المأساة، عمل السلطان الأشرف برسباي بنصيحة واحد من كتبة السر اللى أشار عليه بجمع أربعين شريفا يمتد نسبهم إلى الرسول، وكلهم اسمهم محمد، وفرق على كل واحد منهم 5 آلاف درهم، وأجلسهم بالجامع الأزهر يوم الجمعة يقرأون القرآن، وقاموا يدعون الله من الجمعة إلى العصر، وبعد كده صعدوا إلى سطح الجامع وأذنوا جميعا في صوت واحد، وصلوا مع الناس صلاة العصر، لكن الوباء لم ينته، بل مات "كاتب السر" الذى أوصى السلطان بهذه الوصية.
وترك كل سكان القاهرة أعمالهم، واشتغلوا إما بدفن الموتى أو تكفينهم أو تغسيلهم، وكان الحفارون مقيمين في المقابر لا يفعلون شيئا سوى الحفر، ثم عجزت أعمال الحفرعلى كثرة المشتغلين بها عن حفر قبر لكل إنسان، فصار الموتى يدفنون في قبور جماعية، وأصبحت النعوش في الشوارع كأنها قطارات جمال لكثرتها، متواصلة بعضها في إثر بعض".
وكان أن يستقل الرجل عربة بـ"حمار"، ثم يموت وهو راكب فيها، فيلقيه المكاري أو سواق الحمار على جانب الطريق ويواصل عمله.
حكاية متكررة، وقعت في مصر عشرات وربما المرات، منذ أن ضربنا طاعون الموت الأسود في عهد السلطان الناصر حسن عام 749هـ /1348م، وبقي الطاعون في مصر يزورها في شكل موجات، تأتي أحيانا كل بضعة سنوات، وأحيانا أخرى كل عام، ، واللى كان واحد من الأسباب الكبيرة إن سكان مصر كانوا دائما في تناقص مستمر، وانخفاض كبير في أعدادهم حتى عد الأمر "معضلة" كبيرة تستلزم الحل.
واستمرت موجات الطواعين تأتينا حتى عام 1844 في الطاعون الذى وقع في أواخر عهد محمد علي، وانقطع الطاعون نصف قرن تقريبا إلى أن عاد في آخر موجات طاعون أخرى ضربت مصر من سنة 1899م وحتى 1932م، وطبعا لم تكن بحدة طواعين العصور الوسطى، ولأن كمان كان قد تم اكتشاف علاج الطاعون أخيرا واستطاع العلم إيقاف ذلك الوباء المرعب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة