كان الأمر لأكثر من عقدين أشبه بالقانون، إذا كنت بصدد كتابة أو إنتاج دراما تليفزيونية فأنت مُطالب بـ30 حلقة على الأقل، ليس مُهمًّا إن كانت الحكاية تحتمل ذلك أم لا، فالقالب المفروض على الصناعة كان مُتحكّمًا فى ماكينة الإنتاج وإيقاع المشاهدة، تقولبت صنعة الدراما تلبية لحاجة الاقتصاد، وارتباطا بأنها لم تعد حالة خالصة لذاتها، بقدر ما تحوّلت إلى حامل دعائى لتفاعلات السوق وخطط الترويج، الشهور الأخيرة يبدو أنها دقّت مسمارا كبيرا فى نعش تلك الرؤية المُتكلّسة، وفتحت بابًا عريضًا لإعادة بناء عناصر الصنعة وفق تفاعلات جديدة، ما يعنى العودة عن لَجم الفن بحسابات نمط مُحدّد من العوائد، والانطلاق فى مسار جديد يبتكر صيغًا اقتصادية أكثر كفاءة، من حيث قدرتها على الموازنة بين ضبط الخطاب وإبقاء تروس الصناعة نشطةً من دون توقّف.
أغلب الحكايات يُمكن قصّها فى فيلم، وما يحتمل ساعتين من الدراما لا مُبرّر لأن يشغل خمس عشرة ساعة أو عشرين أو أكثر، هنا يُصبح التحدّى أن تبتكر حكايات صالحةً للتوالد من بعضها، ومُتشابكة الخطوط والشخوص؛ لتكون مُقنعةً فى كفايتها لملء مساحات عرض أوسع، ليس مطلوبًا بطبيعة الحال أن تصبح كل الدراما أفلامًا أو مسلسلات قصيرة، ولكن أن تُترك الحكايات لتتنفّس بقدر ما تحتاج من هواء، وألا يُصبح المُتلقّى فريسة سهلة يُوزّعها صُنّاع الدراما على أطباق التجّار والمُعلنين. الموسم الأخير نموذجًا شهد أعمالاً استطاعت إيفاء اشتراطات الثلاثين حلقة دون خلل، مثل رسالة الإمام وجعفر العمدة، مقابل أعمال أخرى اختارت الاقتصاد فى زمن العرض بما يُلائم الحكايات وغاياتها، هذا الرهان شقّت طريقه المنصّات، وتبنّاه الصُنّاع، وطوّره نُضج فلسفة المُنتجين وخططهم. ابتكار صيغة مُلائمة للواقع ومُستجيبة لحساسية التلقّى الجديدة بتوازنٍ مع احتياجات السوق؛ لا يُحدث أثرًا مهمًّا فى ضبط المُعادلة مع المُشاهد فقط، بل يجتذب قطاعات أوسع، ويُحفّز الإنتاج، ويُعظّم عوائد الأفراد والكيانات، والأهم أنه ينعكس بالضرورة على جودة المُنتج نفسه مع التراكم ونموّ التجارب.
تستند العلاقة فى أساسها إلى توازنٍ دقيق بين رؤية المبدع وحاجة المتلقّى. تلك المعادلة اختلّت جزئيًّا عندما دخل المُعلنون على الخطّ فارضين شروطهم، فتراجعت أهمية المُشاهد وحاكميّته على مُخرجات الصنعة، لصالح تخطيط وبناء مواسم طويلة نسبيًّا، تسمح بحشد النجوم ذوى الشعبية ساعاتٍ أطول، لا لغرض درامى أو فنى فى المقام الأول؛ إنما لتمكين الشركات من رسم استراتيجيّاتها التسويقية، وهندسة رسائلها، وإنفاق مُخصّصاتها الدعائية على وجهٍ مُقنع لفرق التسويق والوكالات الإعلانية، قد لا يبدو الأمر ظاهريًّا من قبيل التحكُّم الضار؛ لكن لعلّ إيقاع ماكينات الإنتاج فى السابق لم يكن سريعًا إلى الدرجة الكافية لمواكبة التحوّل، فلم يسمح بتمدُّد مساحات العرض دون إخلالٍ بتوازن عناصر الحكاية، أو انتقاص من مبدأى الجودة والمتعة؛ لتنزلق اللعبة فى اتجاه الحشو والتطويل التزامًا بإنجاز ما فُرض عليها، وتعانى بعض نتاجات تلك الحالة من الرطانة وخُفوت البلاغة والجمال.
نشأت الدراما التليفزيونية فى أحضان الدولة مطلع ستينيات القرن الماضى، محمولةً على أكتاف الإنفاق العام، ومعزولةً عن حسابات الربح والخسارة، نظرة التثقيف والتسلية تحت الرعاية الرسمية منحت الصناعة الناشئة هامشًا واسعًا للتجربة وإدارة اللعبة وفق منطق مُنضبط، خاصة أن أغلب كُتّابها كانوا وافدين من عالمى السينما والمسرح، ومُتأثّرين بروحيهما فى التكثيف والاختزال والوصول إلى الغايات من أيسر الطرق وأجملها، وقتها لم تكن حلقات المُسلسلات مُرتبطةً بأى شىء إلا الحكاية وحاجتها، فكان عاديًّا أن ترى عملاً يُلملم أوراقه ويغادرك فى الحلقة الثالثة عشرة، وقبلها أو بعدها بقليل، أو أن نرى سُباعيات وخُماسيات وسهرات تليفزيونية، المواسم المُطوّلة كانت مطلبًا تجاريًّا جاء لاحقًا وفق حسابات اقتصادية وتسويقية، ولم تكن تطوّرًا ناشئًا عن حاجة الدراما والجمهور، أو عن نموّ عناصر الصنعة وقدرتها على الإجادة والإحكام بنَفَس طويل.
شهد موسمُ رمضان الأخير نشاطًا واضحًا للدراما المصرية. بين أكثر بقليل من ثلاثين مُسلسلاً اختار خمسة عشر عملاً منها أن تقتصد فى حلقاتها، «الشركة المتحدة» أبرز الكيانات الإنتاجية مصريًّا وعربيًّا فى الوقت الراهن أنتجت ثمانية عشر عملاً، كان ثمانية منها دون ثلاثين حلقة، وبالتفصيل: «الكتيبة 101» عشرون حلقة، و«حرب» عشر حلقات، إلى جانب 6 مسلسلات من خمس عشرة حلقة.. القراءة المُوجزة تُشير إلى قرابة نصف الإنتاج من «الدراما المٌقتصدة»؛ ما يعنى أننا لسنا بصدد حالةٍ عارضة أو تجربة عشوائية، بقدر ما نتّجه نحو فلسفة جديدة بخُطى واضحة المعالم، عمادُها أن تكون الحكايات ومُتطلّبات الدراما حَكَمًا نافذَ الكلمة على صيغة الإنتاج والعرض، سعيًا إلى استعادة فاعليّة الصناعة وتنصيبها من جديد قائدًا لاقتصاديات الفن، بدلاً من تركّز القيادة سابقًا فى أيدى وكالات الإعلان أو قنوات العرض.
صحيح أن المُنتج الدرامى بكلِّ صوره قادرٌ على صيانة مُعادلة العوائد، على الأقل فى المدى الطويل مع تكرار العرض وبيع الحقوق لعديد القنوات والمنصّات؛ إلا أن التحوّل عن مُرتكزات وقوالب عمل قائمة ومُجزية لا يخلو من مُغامرة، أوّلا تبدو الأعمال الطويلة أكثر جدوى إنتاجيًّا، إذ إن تعبئة عشرين ساعة من الدراما ربما تكون أقل تكلفة بالقياس إلى إنتاج عملين قصيرين بفريقين كاملين، وأعلى ربحًا بحسبة الكُلفة والعائد، فضلاً عن الأجور التى سيكون تفاوت النجوم فيها ضئيلاً بين الحالتين، سواء كان العمل مُقتصدًا أو طويلاً، فى المقابل يُحقّق «الاقتصاد» منافع تصبّ فى صالح الجمهور والفنانين بالأساس؛ من زاويةٍ تسمح بإثراء المحتوى وتنويع الرؤى وتكثيف المعروض، وتفتح الباب لتنشيط الساحة وتشغيل أعداد أكبر من الممثّلين والفنيين، وتُتيح فرصًا أوسع للاشتباك مع قضايا وموضوعات لم يكن ميسورًا اجتراحها وفق المُعادلات القديمة.
كان المدخل الأوّل تلبية احتياجات العرض الناشئة عن طفرة «المنصّات الرقمية». وفّرت المساحة الجديدة تحرُّرًا نسبيًّا من توازنات سوق الدعاية القائمة، تاليًا استكشف الفاعلون فى السوق إمكانات تلك الوصفة فى التنويع وكسر القوالب، ومع النمو ستتراجع الأعمال مُمتدّة الحلقات لصالح الدراما المُكثّفة، وتتضاعف أعداد الأخيرة وتتعدّد صِيغها بما يُناسب الطلب المُتزايد عليها، ويُغطّى ساعات البثّ الطويلة فى قنوات العرض التقليدية. إرساء تلك الصيغة واستدامتها سيُطوّر مُستقبلاً من أنماط التعاطى مع الطرح الدرامى، ومفاهيم القيمة والرّواج، ومركزية النجم فى معادلة التسويق، ما يُنشّط حضور الصف الأول فى تجارب سريعة، غير مُستهلَكة فنيًّا أو مُستهلِكة لهم بدنيًّا وتجاريًّا، ويفتح الباب لفرصٍ أكثر تنوّعًا لجيل الوسط ونجوم الصف الثانى، ويُتيح قاعدة عريضة لاكتشاف مواهب التمثيل والمجالات التقنية، وتجربة الأفكار الجريئة والتقنيات المُغامرة فى أعمال محدودة العبء «خمس أو سبع أو عشر حلقات مثلاً»، وكل ذلك على مُرتكزات مُنضبطة يتقدّم فيها المحتوى والتكنيك وتكامل مفردات الحالة على معايير النجومية والجاذبية والحشد الكثيف.
حصيلةُ موسم رمضان تُوفّر قراءة إيجابية لتجربة الدراما المُقتصدة؛ إذ سمحت أوّلاً بمساحة ثرية من التنوّع وحضورٍ أوسع للنجوم رغم محدوديّة الموسم، كما أتاحت الاشتباك مع قضايا ربما لم تكن تحتمل عملاً طويلاً، وفق منطق الحكاية أو حسبة الجاذبية، والأهم أنها خلّصت المنتج النهائى من أعباء كان يُجبر على حَملها ولا يد له فيها، وأقساها أن يُطلب منه التمدّد أكثر ممّا يحتمل حتى يُغطّى حيّزًا لم يرسمه، أو أن يُغامر بفقدان شغف المُشاهد ودهشته لصالح رغبة المُعلن وأولويّاته. يُمكن القول إن العودة إلى الأرض الأولى التى بزغت فيها نبتة الدراما التليفزيونية تحوّلٌ من حالة «ما يفرضه المُعلنون» إلى «ما يُفضّله المشاهدون»، ولاحقًا ستتكيّف الشركات ووكالات الدعاية على الصيغة الجديدة، وستكتشف فيها جاذبية وفعّالية أكبر، بقدر ما فيها من ثراء، وما تُتيحه من قائمة خيارات طويلة بكل الوجوه والألوان والموضوعات والنكهات وأنماط السرد. الطلب كبير ومُتنامٍ على الدراما، والمُتلقّى الآن ليس جمهور مسلسل الثامنة على القناة الأولى قبل عقدين أو ثلاثة، وصيغة الإنتاج المُهيمنة منذ ما بعد التسعينيات لم تعد مُلائمة لا للجمهور ولا الصُنّاع؛ لا سيما أنها فكّت قبضة الفن عن عصا الإنتاج واقتصاديات الصناعة بشكل واضح؛ لذلك فإن العودة إلى المنابع الأولى، وابتكار صيغة أكثر كفاءة فى تقريب الرؤى بين الإبداع والاقتصاد وإيقاع التلقّى الراهن، يُمثّلان إنعاشًا للمعادلة بكل أطرافها، رأينا مُقدّمة التجربة فى رمضان، وكانت إيجابية بشكل ملموس، وما يُتوقّع منها أكبر كلّما نضجت الحالة واستوت، وسيخرج الجميع رابحين، كما سيربح الفن أيضًا.