اعتاد المفكر الثائر، عبدالرحمن الكواكبى، الاجتماع بإخوانه وأصدقائه فى أحد المقاهى كل مساء، وفى الخميس 14 يونيو، مثل هذا اليوم، 1902، جلس فى مقهى «يلدز» قرب حديقة الأزبكية، وشرب القهوة كالمعتاد، وأحس بعدها بألم فى أمعائه فنقله ابنه كاظم إلى منزله، حيث أصابته نوبة قلبية توفى على أثرها، حسبما يذكر الدكتور محمد عبدالرحمن برج فى كتابه «عبدالرحمن الكواكبى»، سلسلة «أعلام العرب، 1972»، مضيفا: شاع أن الكواكبى مات مسموما، وذهب البعض إلى أن السلطان عبدالحميد دبر ذلك له، وإن كان هذا القول تعوزه الأدلة الكثيرة.
يذكر الكاتب المفكر عباس العقاد فى كتابه «عبدالرحمن الكواكبى»، أن هناك روايات مختلفة عن وفاة الكواكبى، وأنه حين سرى الخبر صباح الجمعة 15 يونيو فى القاهرة، أمر الخديو عباس الثانى بدفنه على نفقته الخاصة، وأن يعجل بدفنه، وأرسل مندوبا عنه لتشييعه، ودفن فى قرافة باب الوزير فى سفح المقطم، واحتفل له على يوسف، صاحب جريدة المؤيد، ثلاث ليال حضر فيها القراء، وعلى صفحة قبره المرمرية كتب بيتين للشاعر حافظ إبراهيم: «هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى/ هنا خير مظلوم، هنا خير كاتب/ قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلموا/ عليه فهذا القبر قبر الكواكبى».
يضيف «العقاد»: «يكاد أصحاب الروايات المختلفة عن موت الكواكبى يتفقون على أنه ذهب ضحية الغدر والدسيسة بتدبير من جواسيس السلطان العثمانى عبدالحميد، وكأن وفاته كانت منتظرة لأنه لم يمض عليها يوما أو بعض يوم إلا وقد اتصلت بمسامع السلطان عبدالحميد، وعلى الفور أصدر إرادته إلى عبدالقادر القبانى، صاحب جريدة «ثمرات الفنون» التى كانت تصدر فى بيروت، لأن يهبط سريعا ويقصد محل إقامة الكواكبى ويحرز جميع ما يجده من الأوراق ويرسلها إليه».
جاءت وفاة الكواكبى بعد ثلاث سنوات من مجيئه إلى القاهرة عام 1899 قادما من بيروت، وهو المولود فى حلب بسوريا عام 1848، وابن أحمد بهائى من كبار فقهاء البلدة وعلمائها، درس مختلف العلوم وتعلم الفارسية والتركية، وعمل صحافيا وكاتبا ورئيسا للبلدية ومحاميا وقاضيا للحاجات وتاجرا.
ويذكر الكاتب الصحفى محمود عوض فى كتابه «أفكار ضد الرصاص»: «فى كل وظيفة كان يعمل بها عبدالرحمن الكواكبى كان يرى الاستبداد والطغيان حوله فى كل مكان، لكنه فى نفس الوقت يفكر فى حال المسلمين، فى ماضيهم وحاضرهم، لماذا ضعفوا؟.. لماذا استكانوا؟.. لماذا تدهوروا؟.. لماذا هزموا؟.. لماذا هم راضون عن هزيمتهم؟.. لماذا يستسلمون؟.. لماذا يستبدون؟»، يضيف «عوض»: «واجه حكما بالإعدام فى حلب على أثر وشاية من حاكمها عارف باشا، وأعيدت محاكمته فى بيروت، دافع عن نفسه فيها ليحصل على البراءة، وبعدها جاء إلى القاهرة لتتوثق علاقته بالخديو عباس الثانى والشيخ على يوسف صاحب جريدة المؤيد.
يذكر الدكتور محمد عبدالحميد برج: «لم تمض على مبارحة الكواكبى حلب بضعة عشر يوما إلا وعرف الناس بوجوده فى مصر، وأخذت جريدة المؤيد تنشر كتابه الذى أسماه «طبائع الاستبداد» فى مقالات متفرقة بعنوان «الرحالة كاف»، وينقل «برج» عن كامل الغزى صديق الكواكبى وكاتب سيرته قوله: «أخذت جريدة المؤيد تنشر له طبائع الاستبداد الذى لم يطلعنا عليه مطلقا بخلاف كتاب «أم القرى» فقد أطلعنا عليه مرارا، وطبع الكتابين المذكورين، وقام لهما فى المابين «قصر السلطان العثمانى» ضجة عظيمة، وصدرت إرادة السلطان بمنع دخولهما إلى المماليك العثمانية، ورغم ذلك وصلا إلى حلب على صورة خفية، وقرأنا الكتابين فى سمرنا المرة بعد المرة، وبلغنا أنه بعد دخوله إلى مصر بأيام قليلة، التف حوله جماعة من أدباء الأتراك وهم فى الحقيقة جواسيس يراقبون حركاته وسكناته ويكتبون إلى المابين».
يضيف «برج»: فى مصر رفع القلم مجاهرا بسقوط استبداد السلطان عبدالحميد الثانى، وهاجم العثمانيين وسياستهم فى الحكم، وأحدث كتابه «أم القرى» دويا هائلا، ويلعب الكتاب دورا كبيرا فى حركة اليقظة العربية، حيث ينادى فيه بأنه إذا كان على العالم الإسلامى أن يقف فى جبهة واحدة، فلا بد أن تكون القيادة عربية، وأن يكون مركزها مكة «أم القرى» لاستانبول.
أما عن كتاب «طبائع الاستبداد»، فيذكر «برج» أنه يتناول الاستبداد بكل أنواعه، وأقبحه هو استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويتحدث عن الاستبداد والدين فيفضح تستر المستبد تحت راية الدين وزعمه الغيرة عليه، ويذكر أن بين الاستبداد والعلم حربا دائمة وطرادا مستمرا، والاستبداد والأخلاق، وعن الاستبداد والمال يقول: «الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، وأبى الظلم، وأمى الإساءة، وأخى الغدر، وأختى المسكنة، وعمى الضر، وخالى الذل، وابنى الفقر، وبنتى البطالة، وعشيرتى الجهالة، ووطنى الخراب، أما دينى وشرفى وحياتى، فالمال، المال، المال».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة