جلس الإرهابى الذى أصبح مرشدًا للإخوان مُنتفخًا؛ ليقول: «طظ فى مصر»، لم يكن مهدى عاكف فى حواره مع سعيد شعيب، ربيع 2006، يُعبّر عن رأى شخصى أو انحراف طارئ فى نظرة الجماعة. سبقه مُنظّرها وأشدّ غربانها شُؤمًا، المُجرّم سيد قطب، عندما قال: «ما الوطن إلا حفنة تراب عفنة»، وقبلهما حسن البنا بقوله: «يجب أن نصل إلى أستاذية العالم، والوطن وسيلة وليس غاية».. لم يكن التنظيم وطنيًّا فى أية مرحلة من تاريخه، ولم يُفوّت فرصة للطعن فى فكرة الوطنية وتحقيرها، واتّخذ من هذا مُسوّغًا لقفز الحدود ومصالح البلاد والعباد، وتبرير كل الممارسات التى لا يُمكن تصنيفها إلا فى باب العمالة والخيانة الصريحة. فى التاريخ كثير، وفى الواقع أكثر، يبدأ من لقاءات وتفاهمات تقع فى صُلب الإضرار بالدولة، ويمتدّ إلى الاستقواء بالخارج، واستعداء العالم على مصر، وصولاً إلى واقعهم الراهن خَدَمًا لأجندات دول ومشاريع عدائية وأجهزة استخبارات على كل لون، لا رابط بينها إلا نجاحها جميعًا فى توظيف فصيل جاهز للاستئجار دائمًا، ويضع مصالحه فوق كل اعتبار، ولا تردعه عن التردّى أية قيمة أو مبدأ.
أسبوعٌ واحد فقط كان قد مرّ على تسلُّم «مرسى» مهامّه الرئاسية، عندما وصل مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية وليام بيرنز إلى القاهرة، والتقاه حاملاً رسالة من أوباما، ثمّ خرج بعد اللقاء قائلاً: «من المهمّ أن نرى برلمانًا منتخبًا بطريقة ديمقراطية». ربما أوحت العبارة بدفع واشنطن فى اتجاه ترتيب انتخابات بديلة عن مجلس الشعب المنحلّ بحكم الدستورية ثم قرار المجلس الأعلى للقوات المُسلّحة فى 15 يونيو؛ لكن الرئيس الإخوانى قدّم سريعًا البرهان على أن ما دار فى الكواليس حمل معنى مُغايرًا لصياغة «بيرنز» السياسية، فأعلن فى اليوم التالى مُباشرة عودة المجلس الساقط. كان الخطأ ظاهرًا فى أن الخطوة مُنعدمة الشرعية دستوريًّا، فضلاً عن افتقادها الكياسة والانضباط بالنظر إلى أن الحلّ سابق على تنصيب الرئيس، ومن ثمّ فإن قراره كان بمثابة إنشاء لسلطة تشريع من العدم، وليس إعادة كيانٍ مُختلَفٍ على مشروعيّته. هذا الوجه القانونى لم يكن يعنى الجماعة؛ ربما لأنها حصلت على تطمينات من الإدارة الأمريكية، أو انتهجت هذا المسار تنفيذًا لإملاءاتها. كان الواضح أننا إزاء مُجاهرة صريحة برباطٍ يجمع التنظيم بالبيت الأبيض، ويجعل من فاعلية خط «القاهرة/ واشنطن» أداةً فى صالح المشروع الإخوانى ضد مؤسَّسات الدولة وتوازن سلطاتها أوّلاً، وفى مواجهة أى موقف سياسى أو شعبى قد يطرأ لاحقًا.
زيارة «بيرنز» لم تكن الأولى؛ إذ سبقتها جولة فى القاهرة مطلع 2012 التقى خلالها قيادات الجماعة، ثم محطّة ثانية فى أبريل التالى بواشنطن مع وفد من إخوان القاهرة ومُمثّلين عن فرعى تونس والمغرب. وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون حطّت فى مصر بعد أسبوعين من فوز «مرسى»، وتكرّرت لقاءاتها بعناصر الجماعة هنا وهناك، كما لم تنقطع اجتماعات سفيرتها آن باترسون مع خيرت الشاطر ورفاقه داخل السفارة وفى مكتب الإرشاد وأماكن أخرى. يصعب حصر اللقاءات المباشرة لقادة التنظيم بمسؤولين أمريكيين طوال 30 شهرًا بين 25 يناير و30 يونيو، فضلاً عن الاتصالات والوسطاء والرسائل المُتبادَلة، ولم يخفت بريق «شهر العسل» بينهما حتى بعد إطاحة حكم الجماعة، إذ عاد «بيرنز» للقاهرة فى يوليو وأغسطس 2013 مُلتقيًا الشاطر وآخرين، وبينما رفع لافتة التهدئة والبحث عن مخرجٍ آمن نحو الانتقال الديمقراطى، كان يبدو أنه يبحث بالدرجة الأولى عن تأمين خروج إخوانى قابل للعودة؛ كأن واشنطن تستميت فى القبض على ورقة التنظيم، وتحاول إزاحة شبح احتراقها وخسارة بوّابتها الذهبية فى قلب المشهد السياسى المصرى.
تُرَدّ علاقة الإخوان بالولايات المتحدة إلى أوائل الألفية. بحسب رواية أستاذ علم الاجتماع سعد الدين إبراهيم، الذى يعدّه كثيرون عرّاب اتصال الجماعة بالأمريكيين، إذ التقى «الشاطر» وبعض رفاقه داخل السجن بعد العام 2000، وطلب منه الكادر الإخوانى ونائب المرشد لاحقًا أن يفتح لهم قناة اتصال مع واشنطن. حدث الأمر بالفعل بدءًا من 2003 بـ3 لقاءات فى النادى السويسرى بإمبابة، وخلال سبع سنوات تالية تتابعت أكثر من 10 جولات، فضلاً عن حضور عناصر الجماعة ضمن لقاءات برلمانية مُوسّعة شملت طيفًا عريضًا من التيارات. رواية ثانية قد تُؤسِّس لبداية مُغايرة؛ إذ بعدما ركّزت الجماعة على أنشطة التنظيم الدولى فى فترة النزوح بعد حادثة المنشية ومحاولة اغتيال عبد الناصر، تمدّدت نقاط ارتكازها لتُغطّى عواصم غربية عديدة. لم تكن واشنطن بعيدة عن ذلك، بل يتأكد بمراجعة كشوف الحساب وما تُفصح عنه من استقرار وجوه إخوانية فيها منذ السبعينيات؛ لكن ربما تكون القفزة الأوسع مع تأسيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية «كير» عام 1994، وتغلغل الجماعة فى أروقته وما تفرّع عنه من كيانات وأنشطة. فى الأخير قد تكون العلاقات توطّدت سياسيًّا بوساطة «سعد الدين» ومركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية؛ لكنها فى الغالب سبقت ذلك بسنوات طويلة.
لم تر «الإخوان» نفسها منذ النشأة جماعة وطنية، من حيث الأيديولوجيا والأهداف وبيئة النشاط. كان حسن البنا مدفوعًا من اللحظة الأولى بطموح يتجاوز المحلية ويزدرى الحدود؛ لهذا سعى إلى ربط نفسه بكل الأجنحة والنطاقات الخارجية المُمكنة: فى اليمن وشبه الجزيرة، ومع شركة قناة السويس الفرنسية التى تقرّب منها وحصل على رشاوى مالية مُباشرة، وفى محاولة اتّصاله بالنظام النازى ووساطة مفتى القدس أمين الحسينى لجمعه بـ»هتلر»، وحتى الاحتلال الإنجليزى لم يبتعد عن دوائر اتصاله. فى التحليل، فإن نشأة الجماعة على أرضية أصولية بعد فورة وطنية عارمة فى 1919 كانت استهدافًا صريحًا للمدّ القومى، عبر تفكيك الإجماع العام وردّه إلى انتماءات هويّاتية وعقائدية ضيّقة، وتلك فائدة لا تصب إلا فى صالح المُحتلّ، وفى استقراء الشواهد: بينما مارس البريطانيون غطرسةً مفتوحة مع أغلب القوى السياسية، تُركت للجماعة حرية حركة غير طبيعية؛ حتى أنها فى غضون سنوات قليلة أسَّست زهاء 300 فرع، ونظّمت عدّة مؤتمرات عامّة حاشدة، وزادت عضويتها لنحو 100 ألف وامتلكت صحفًا ومطابع وفرقة مسرحية. لم تكن حركة الأفراد العاديّين ميسورةً وقتما تحرّك الإخوان بأريحية بالسلاح والمال والعربات المُفخّخة، وأحرقوا حارة اليهود ودور السينما، وبدا جيش الاحتلال مُتساهلاً، وجاهروا بالعداء للوفد رغم شعبيته الكاسحة، وساندوا حكومات الأقليات. كان الواضح أن «قطعان البنا» تحظى بغطاء آمن، وتلعب أدورًا مُضادّة للنزعة الوطنية المُتنامية فى المقام الأول.
فى مرحلة الشقاق العميق مع ثورة يوليو خرج التنظيم إلى وجهات بديلة، وبعدما كان يُوظِّف أجنحته الخارجية الضعيفة نسبيًّا لخدمة مركز المشروع فى القاهرة؛ تحوّل الرهان بدرجةٍ أكبر إلى الأجنحة وعاصمتها البديلة. تمدّد فى بعض دول الخليج وشمال أفريقيا، وحظى بمُساندة من أنظمة رجعية فى إطار مجابهة مشروع «عبدالناصر» القومى الوحدوى، بما أثاره من مخاوف فى نفوس بعض عائلات الحُكم، وجرى توظيف كل ذلك فى توطيد دعائم نسخة الإخوان الدولية وقلبها الجديد فى لندن. الاختيار لم يكن مجانيًّا وربما نبع من روابط قديمة، لا سيّما أنهم تمتعوا بمساندة قوية وتساهلٍ واسع مع أنشطتهم داخل المملكة المتحدة، ومع اتخاذ أراضيها مُرتكزًا للتمدّد نحو عمق أوروبا وأطرافها. من تلك القاعدة، ومن الفائض البشرى والمالى فى مصر والخليج، وسّعوا حضورهم استنادًا إلى الملفات المُلتهبة، فى الشيشان وأفغانستان والبوسنة وكوسوفو وغيرها. لم يكن هذا التمدُّد بعيدًا عن قبول أمريكا وأوروبا، خاصة أنه جاء فى سياق رواسب الحرب الباردة وصراع الغرب مع بقايا المعسكر الشرقى.
ما حدث من توالى محطّات العبور السهل فى حقول الألغام الدولية، عزّز غرور الجماعة بقدرتها على المراوغة وتوظيف صراعات كل الأطراف لتصب فى خزائنها. ربما كان ذلك صحيحًا من زاوية غرام القوى الكبرى بالرهان على التيارات الرجعية فى إدارة حروبها غير النظيفة بالوكالة؛ لكن الضابط الوازن الذى تغافلت عنه أن النزول عن روحيّة المركز التنظيمى يُهدّد بذوبان فكرة المؤسِّس، وتحوّلها من مشروع سياسى أُممى صُلب إلى مجرّد شركة تحكمها رغبات الزبائن، وتقبض أتعابها مالاً أو أمانًا تحت شروط الوجود المحدود فى البيئات الطارئة؛ فعادت سريعًا للبحث فى البدائل المُمكنة. كان المطلوب أن تنتقل من حال الجماعة إلى صيغة الدولة، على ألّا يحدث ذلك خارج القاهرة؛ حتى لا تسقط الزعامة أو تنحرف المرجعية؛ لهذا استعجل التنظيم القفز على السلطة فى مصر، رغم أن غاية امتلاك دولة كانت أقرب عمليًّا فى تونس، وبقليل من التساهل فى ليبيا، وبشىء من الإصلاح وإعادة التأهيل فى السودان. واعتبروا أن المُساندة الإقليمية من مركز ثِقل الكتلة الشيعية أو عاصمة الخلافة القديمة، مع الدعم الأمريكى والغطاء الأوروبى، ضمانة كافية لتمرير خطّة التموضع فى قلب منظومة الحكم بعد 2011، ولم يحسبوا أن قطارهم الطائش قد يصطدم بجدار صلد مثل «30 يونيو»، فلا يمتلكون الدولة ولا حتى يُحافظون على الشركة بوجهها الزائف القديم!
كان صعود «أوباما» مُغريًا للإخوان؛ إذ رأوا فيه فرصة ذهبية لمزيد من التقدّم باتجاه خطّة التمكين. «الشاطر» أوّل من وضع تصوّرًا تطبيقيًّا لتلك الغاية ضمن «أوراق سلسبيل»، وبينما حملت السنوات السابقة تقدُّمًا على محور واشنطن فى ظل إدارة جمهورية محافظة، وصدامٍ خشن مع الأصولية الإسلامية، كان صعود الرئيس الديمقراطى الأسود ذى الامتداد العائلى المسلم، بما يبدو نتوءًا طارئًا فى مسار السياسة الأمريكية، بشارةً بمسلكٍ مُغاير قد يُوفّر فى أقل عطاياه مناخًا مواتيًا للتمدُّد، لا سيّما وقد تصاعد الجفاء مع النظام المصرى واتضح رهان البيت الأبيض على الإسلاميين. اللقاءات بين 2009 وبدايات 2011 حفّزت الجماعة على مناطحة السلطة، وكان نشاطها فى جمع التوقيعات لـ«البرادعى» تحت لافتة الجمعية الوطنية للتغيير إيذانًا بانقلابها على كل التفاهمات السابقة. تلكّأت قليلاً فى حُمّى يناير حتى تجدّدت الرسائل وحصلت على تطمينات؛ لهذا يمكن التماس تغيّر واضح لموقفها إزاء مرحلة التحضير وبدايات التظاهر عمّا تلاها، وتحديدًا منذ الاستفتاء على تعديلات الدستور فى مارس 2011. وقتها كان واضحًا أنها نزلت الملعب وفى جيبها وعدٌ بتصفير عدّاد المباراة لصالحها، فتحوّل خطابها من التوافق إلى الشقاق، ومن الشراكة إلى المغالبة، ومن التخلّى عن سباق الرئاسة إلى المنافسة على كل شىء، وابتلاع كل شىء.
سعى الإخوان فى كل المراحل إلى وصل أعصاب التنظيم بالقوى الكبرى، كلّما كان مُمكنًا؛ وبينما توّهموا أنهم يُحصّلون عوائد ذلك أمنًا ودعمًا وانتشارًا محميًّا؛ كانوا فى واقع الأمر أداة أكثر من كونهم شريكًا. سواء علمت الجماعة أو جهلت، وتحرّكت بإرادة خالصة أو دُفعت لوجهاتٍ مرسومة سلفًا؛ فالمُحصّلة أنها فى كلّ المحكّات أضرّت بالوطن وخدمت أعداءه. قبل يوليو 1952 كانت رافعةً رجعيّة لتعويم الاحتلال وتعطيل جهود الخلاص منه، وبعدها خاصمت الضمير الشعبى وجعلته هدفًا لخططها التدميرية، كما فى أوراق «تنظيم 1965» ومساعيه لإغراق الدلتا، وفى السبعينيات تحالفت مع السادات ثم حرّضت على قتله، انتصارًا لشعارات الأنظمة العائلية والقوميين فى المنطقة وقتها، ودفعت لخنق القضية الفلسطينية عبر تديينها والتحوُّل بها من مسألة إنسانية إلى صراع عقائدى، وساندت الغرب فى الشيشان وأفغانستان والبوسنة، وأسهمت فى تقسيم السودان، وأشعلت ليبيا وما تزال، ووضعت تونس فى عين العاصفة، وأحرقت سوريا خدمةً لمشروع استعلائى كبّل المنطقة أربعة قرون، ثمّ طعنت الدولة فى خاصرتها لصالح خصوم عديدين، يختلفون فى الأغراض ويلتقون على ضرورة إخضاع مصر. بطول الطريق كانت الجماعة شوكةً فى حَلق المنطقة، وخنجرًا مغروزًا فى ظهرها. وفى غضون كل ذلك تلوك الوطنية بثبات خائنٍ عتيد، وتنهى كل مرحلة مدموغة بالعار؛ لتفتتح ما بعدها بإصرار وحماسة كأنها فى مهمّة مُقدّسة. سقط الإخوان فى جولة «30 يونيو»؛ لكنهم ما زالوا يُحاولون، ولن يتوقفوا، والفارق عن كل ما فات أنهم باتوا أكثر انكشافًا، وسقط عنهم حجاب الستر والمراوغة الخادعة.