لبى عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين دعوته لزيارة المغرب، فى 24 يونيو 1958، واستمرت لأسبوعين وسط حفاوة رسمية وشعبية هائلة، كان من أبرز مظاهرها استقبال العاهل المغربى الملك محمد الخامس له، ومنحه أعلى درجة من وسام الكفاءة الفكرية فى 26 يونيو، مثل هذا اليوم، 1958، وفقا للدبلوماسى والمفكر والمؤرخ المغربى الدكتور عبدالهادى التازى فى كتابه التذكارى «طه حسين فى المغرب».
رافق «التازى» الدكتور طه حسين طوال أيام الزيارة، وسجل تفاصيلها فى كتابه، مؤكدا ابتهاج المغاربة وقد أصبح فى مستطاعهم استقبال ضيف كبير كان هو الدكتور طه حسين، و«أنها كانت أيام أعراس أدبية علمية»، مشيرا إلى أن المغاربة لم ينسوا مواقف «العميد» المؤيدة والداعمة لنضالهم، ويذكر: «ركب الاستعمار رأسه فأقدم على نفى الملك محمد الخامس يوم 20 أغسطس 1953، الذى كان يصادف يوم عيد الأضحى عند المسلمين، وهنا لم يكن من الغريب أن يسمع الناس فى المغرب بأن الدكتور طه حسين يرجع الوسام الفرنسى «لاليجيون دونور» من رتبة فارس احتجاجا على ما يجرى فى الجناح الآخر من العالم العربى».
يذكر «التازى» أنه فى يوم الأربعاء 25 يونيو، قام الدكتور طه بزيارة السيد الحاج أحمد بلافريج رئيس الحكومة ووزير الشؤون الخارجية ثم زار وزير التربية الوطنية الحاج عمر بن عبدالجليل، وبعد أن حضر مأدبة العشاء التى أقيمت على شرفه فى بيت السيد الحاج أحمد بنانى مدير التشريفات الملكية، وتميزت بحضور صاحب السمو الملكى ولى العهد آنذاك الأمير مولاى الحسن.. بعد ذلك قام الدكتور طه صباح اليوم الموالى الخميس 26 يونيو بمقابلة صاحب الجلالة الملك محمد الخامس، حيث قرأنا فى الصحيفة الرسمية «العهد الجديد» البلاغ التالى: «حظى الدكتور طه حسين إثر وصوله إلى الرباط بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم، وكان الدكتور مصحوبا بمعالى رئيس الحكومة السيد أحمد بلافريج وسفير الجمهورية العربية المتحدة السيد أسعد محاسن، وحضر المقابلة السيد أحمد بنانى مدير التشريفات، والسيد عبدالكريم غلاب رئيس قسم أفريقيا وآسيا بوزارة الخارجية، والسيد بومهدى رئيس القسم الثقافى بنفس الوزارة، والسيد عبدالهادى التازى عن وزارة التربية الوطنية».
ويمضى البلاغ قائلا: «وكانت المقابلة على جانب عظيم من الحفاوة والود، فقد خاطب صاحب الجلالة الزائر الكريم قائلا: إننا نرحب فى شخصكم بعالم من أعلام الفكر العربى فى العصر الحاضر، والمغرب متشرف بزيارتكم التى كان يتمناها منذ أمد طويل، لمشاهدة ما يبذله من جهود فى سبل البناء والانبعاث».
أجاب الدكتور طه: «إنى متأثر جدا يا صاحب الجلالة بهذه المقابلة، التى أنعمتم على بها، ولى الشرف العظيم بالمثول بين يدى جلالتكم، أنتم الذين قدتم معركة التحرير فى المغرب وعانيتم كثيرا من التضحيات والمشاق فى سبل إسعاد الشعب المغربى، والكل يعترف بالفضل العظيم الذى طوقتم به جيد العروبة بكفاحكم واستبسالكم إلى جانب الشعب المغربى الأبى».
رد جلالة الملك، قائلا: «نعتبر أن كل شخص مهما كانت مرتبته ينبغى له أن يؤدى واجبه فى هذا المضمار. إن الشعب المغربى يذكر كذلك ما قمتم به أيضا من أعمال أثناء المحنة السياسية، التى اجتازها المغرب ولا تزال عالقة بأذهاننا مواقفكم ومقالاتكم فى الدفاع عن القضية المغربية، مما كان له أكبر الوقع والتشجيع للأمة المغربية فى جهادها، وزيارتكم هذه ستكون لها أكبر الفائدة بالنسبة للمثقفين المغاربة الذين يتعطشون لمناهل العلم فى البلاد العربية».
يذكر «التازى» أنه بعد ذلك، دار حديث بين جلالة الملك المعظم والدكتور طه عن ظروف السفر، وبرنامج زيارته للمغرب، ولما لاحظ جلالته أن البرنامج ربما كان مرهقا للدكتور، طلب جلالته من رئيس الحكومة ألا يكون فى البرنامج إجهاد وتعب على الدكتور، وإضافة إلى ذلك، أعلن مدير التشريفات والأوسمة أن صاحب الجلالة تفضل بالإنعام على معالى الدكتور طه حسين بمناسبة زيارته أعلى درجة من «وسام الكفاءة الفكرية»، الذى خصصه صاحب الجلالة بين الأوسمة الجديدة لذوى الكفاءة من العلماء والأدباء والأطباء والفنانين ورجال الفكر، وأن الدكتور طه حسين أول من قلد هذا الوسام العلمى السامى.
فى الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، أقامت وزارة الشؤون الخارجية حفل شاى كبيرا، تكريما لعميد الأدب العربى بحدائق الوزارة لم يحرم الدبلوماسيين من الاستمرار فيها إلا إشفاق السيدة زوجة الدكتور على زوجها من ألا يأخذ وقته لإلقاء محاضراته، حيث استمعت إليه يهمس فى أذن بعض المشرفين على الحفل معتذرا ومداعبا: «اعذرونى فإن من الحب ما قتل»، وبالفعل كان الجمهور على موعد مع المحاضرة الأولى للدكتور طه بعنوان «الأدب العربى ومكانته بين الآداب العالمية».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة