حازم حسين

حوار عن «هوية مصر».. الجسد لن يُنكر أعضاءه والأيديولوجيا لا تحكم التاريخ

الخميس، 08 يونيو 2023 03:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«كلّما اتّسعت الرؤية؛ ضاقت العبارة» كما يقول النفّرى، القطب الصوفى المدفون فى مصر قبل 1000 سنة بحسب الراجح. المعنى الضدّ أنك إذا احتجت إلى إطالة الحديث، ورصف التعابير فى وصف الأشياء، فلعلّ ذلك من قِصر الرؤية.. قد لا ينطبق التجريد البلاغى السالف على كل المواقف، ولا يمنع أن فى بعض الإزادة إفادة؛ لكن ربما يصح إجراؤه على الأمور الواقعة فى صُلب التبصّر والتماس الجوهر. موضوع الهويّة واحد من أعقد العناوين العريضة فى إرث البشر ومدوّنة اجتماعهم، وكلّما تداخلت عناصرها وتعمّقت فى الزمن والجغرافيا، قلّت الحاجة إلى اللغو فيها وتبديد الكلام على تعريفها؛ إذ تصبح وقتها مادة أولية تُعرّف بذاتها جُملةً، وليس بأُحاديّة ما ينسكب فيها من مراحل وطبقات.
 
لطالما كانت مسألة الهوية المصرية محلّ جدل، حتى قبل الوقوع على الاصطلاح أو طرحه للبحث؛ وعلى الأقل منذ مُغادرة فضاء العصور الوسطى وشقّ مسار التحديث مع ولاية الباشا الألبانى محمد على.. تحسّس المصريون ذواتهم باحثين عن خطّ الفصل بين لحمها وعظامها، ولأنهم كانوا واقعين فى أسر تتابع طويل من الإغارة على ثقافتهم، أقلّه لخمسة قرون مع المماليك والعثمانيين، كان البحث بطيئًا والوصول مُتعسّرًا، ولا سبيل إلى اتّفاقٍ جامع. ربما تكون الحركة الوطنية الناشئة فى الحاضنة العسكرية، مع البارودى وعرابى وغيرهما، بداية البحث عن جملة مفتاحية لتعريف يُلائم العصر؛ لكنها سرعان ما انتكست مُجدّدًا مع قدوم بوارج الإنجليز. بقدر ما عطّل الاحتلال تصوّرًا هويّاتيًّا يستند بالكُليّة للعروبة والدين، فإنه فتح عيون التفاعلات الاجتماعية صوب مياه أخرى. دفع تصاعد الاهتمام بالحضارة القديمة وكشفُ أسرارها، فضلاً عن الاحتكاك بالشمال وأثر البعثات التعليمية، وما يخالط ذلك من شعورٍ بالانفصال عن المحتل وسعىٍ إلى الاستقلال، فى اتجاه البحث عن قراءات مُغايرة واستكشاف الصورة فى مرايا جديدة. هكذا حضرت الهويّة سؤالاً صلبًا، ومُرتكزا أصيلاً لكثير من أنشطة السياسة والثقافة، مباشرة أو من أبواب جانبية.
 
فتح «الحوار الوطنى» الملف مؤخّرًا، وأفاض فى نقاشاته عبر جلستين للمحور المجتمعى بأسبوعه الأول. السؤال ليس جديدًا؛ لكنه ما يزال فى حاجة إلى حسم أو توافق؛ لا سيّما أن كثيرًا من معرفتنا بأنفسنا، ووعينا بمجالاتها الحيوية واستشرافنا للمسارات المأمولة، ينبنى على موضوع الهويّة. قد يتصوّر البعض من زاوية السياق المُنشئ للحوار أن المقاربة تغلب عليها السياسة، ربما سعيًا لتجسير الفجوة بين شركاء الساحة، وفيهم قوميّون وأُمميّون، وقد سبق أن عانينا محنة الرهان بخصوصية الوطن وثقافته على طاولة الإخوان؛ لكن المُرجح أن البحث عن إجابات شافية حاجة وجودية ومعرفية خارج صراعات السياسة وتوازنات قواها، حتى لو بدا أنها تلعب دورًا فى سدّ ثغور ظرفية أو لَجم انحيازات «فوق وطنية». لا يُفهم حتى اللحظة، كيف لبلد بحجم مصر وتاريخه ألا يتفق أبناؤه على تعريف دقيق لشخصيته، ولا كيف يكون الثراء قيدًا غليظًا بدل أن يصبح رافعة متينة!
 
يُؤسِّس الدستور فى ديباجته لرؤيةٍ عريضة، تحترم امتدادات مصر الجغرافية والتاريخية، وتصون روابطها مع المحيط العربى والعمق الأفريقى وحوض المُتوسّط، ولا يقفز على حلقتها الحديثة وثوراتها وزعماء استقلالها. ونصُّ مادته الأولى: «الشعب المصرى جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامى، تنتمى إلى القارة الأفريقية، وتعتز بامتدادها الآسيوى، وتسهم فى بناء الحضارة الإنسانية».. مقابل القوس الواسع الذى رسمته الوثيقة المركزية، لا يخلو المشهد من فريق يحصرها فى الجوار الثقافى، كما كان مصطفى كامل قديمًا ينتصر للخلافة ويسعى لأن نعود جزءًا منها، وفريق يدفعها شمالاً بتصوُّر يشبه أطروحة عميد الأدب العربى، وآخرون يربطونها إلى الجسد الأسمر جريًا مع النيل، وعلى مسافة منهم جميعًا يقف القوميّون المصريون زاعقين أنها فرعونية فقط «على الشائع لا دقة التعبير»، وربما يتبقى قليلون واعين أنها كل هذا معًا، وما من مُبرّرٍ للفرز والاستبعاد؛ إذ لا منطق ولا ضرورة فى أن تُنسب لجزءٍ وتُحرم من بقيّة الروح الواحدة.
 
الثقافة حصّالة الاجتماع، وهى كائن حى يتنفّس وينمو ويتزاوج مع كل جديد فى فضاء الحياة.. عربية اليوم فى بنيتها ودلالاتها ليست لغة المنشأ ولا قرن الهجرة الأول، والعامية أيضًا؛ حتى الأديان تتّخذ ملامح وأردية من نسيج البيئات التى ترتحل فيها. تركت مصر أثرًا عظيمًا فى المسيحية بـ«كرسى مارمرقس» والرهبنة، وفى الإسلام بنكهة وسطيّة تُغلّفها صبغة مدنية.. «سُنّتنا» ليست كالسودان والسعودية والمغرب العربى، و«شيعتنا» لا يُطابقون حال إيران والقوقاز وأوراسيا، وليس التصوّف كالتصوف، والمنطق نفسه صالح للإجراء فى بقية النطاقات. هكذا يمكن الحديث عن إسلام مصرى، وعن خصوصية أرثوذكسية، وقد عاشرنا الرومان والإغريق ونتشارك المتوسّط مع أوروبا الحديثة؛ لكننا لسنا أيًّا من كل هؤلاء، ولنا امتداد عزيز يربطنا بأفريقيا، وكنا وما نزال أفارقة على طريقتنا، لا كما فى الغرب أو الشرق أو جنوب الصحراء. يمكن الحديث عن العروبة جسدًا مُستقلاًّ لو أنها بقيت على حالتها، وعن الفرعونية الصافية لو أننا ما نزال ننقش الحجر ونقرأه بمعزل عن مُؤثّرات أخرى، أما وأن الجزء اندمج فى الكل؛ فإننا إزاء عروبة خاصة، ودين وعرق وثقافة وجغرافيا أيضًا، ومن هنا يصبح تعريف الهوية بـ«المصرية» أكثر انضباطًا، من ناحية أنها صيغة خالصة لذاتها من مجموع عناصرها، هضمت كل المدخلات وأفرزت شخصية واحدة، قد لا يعى بعض أبنائها ذلك؛ لكنهم يمارسونه عمليًّا فى كل وقت وموقف.
 
من تلك النقطة نصل إلى سؤال أنضج: وماذا تكون المصرية؟ الحقيقة أنها بسيطة لدرجة أننا نعيشها يوميًّا دون مشقّة أو اضطراب، ومرُكّبة من ناحية كونها حصيلة كل اختباراتنا الصعبة، ومجموع ما تفرّق على القرون والخرائط. أبناء المُهاجرين مصريّون بقدر ما يريدون الانتساب لجذورهم، ولا ينقصون درجة عن فلّاحى الدلتا وبدو سيناء وأهل الصعيد والنوبة وقاطنى إمبابة ودار السلام؛ حتى لو خالفونا المُعتقد أو فقدوا لسانهم العربى وجهلوا تاريخنا البعيد. كان المملوك «طومان باى» مصريًّا للنخاع، على عكس الخائن «خاير بك»، وتتّسع القائمة فى الناحيتين. تبدو «الهوية» وما يتفرّع عنها من انتماء بالوراثة وقناعة بالاختيار الحر، أوسع من مسألة تشارك الأرض أو اقتسام الفضاء المعرفى؛ إنما تتصل فى الأساس بالوعى والرغبة، وعدم إلحاقها على عناوين غريبة، وباستيعاب أنها طبقات رتّبتها المواقيت دون أفضليّة لعنصر على آخر، ولا يتم الإيمان بها إلا بقدر السماحة فى قبولها كما هى دون قيدٍ أو شرط؛ ربما لهذا تصادم الإخوان مع الهوية الوطنية صدامًا عنيفًا، ليس لأنهم تجاوزوا قانونها فقط، بل لأن قفزتهم عليها ترافقت مع محاولة مُتعسّفة لانتزاع خصائصها، وإعادة تشكيلها على وجه أراد تفكيك ثرائها، وتغليب خصيصة/ حقبة ماضوية، على الصيغة الجامعة بكل خصائصها راسخة الرُّتبة والأثر، فى مسار مضادٍّ لحركية الجغرافيا والتاريخ.
 
أصالة الشخصية المصرية نابعة من عمق الجذور، وقدرتها على حَمل الجسد الضخم وفروعه الكثيفة، ومن إتقانها للصهر والتشكيل برحابةٍ واتزان؛ حتى أنك ترى الخطوط الدقيقة بين تكويناتها ولا تستطيع فصلها. ربما يبدو المكوّن العربى أكثر وضوحًا؛ لالتحام الجغرافيا أو تلبُّسه مُفردات التداول اليومية؛ لكن أثر النيل والطمى والملوك والكهنة والنحّاتين والرهبان وآباء الأزهر والغُزاة العابرين جميعًا ما يزال مخبوءًا فى ركن من الذاكرة والروح. عندما قدّم طه حسين أطروحته عن «مستقبل الثقافة فى مصر» مُنطلقًا من أثرنا المباشر فى نهضة أوروبا، وما يُراه عن فاعلية العودة إلى مكوّناتها فى شحذ الحضارة وامتلاك القوة والثروة، كان فى الغالب مدفوعًا بسخط على الاحتلال والرجعية الدينية وتهدُّم مخازن المعرفة الوطنية؛ لكنه وقع فى تناقضٍ بربط دعوته التغريبية بمركزية اللغة العربية وثقافتها، ولم تختلف تنويعات الحكيم ولويس عوض وحسين فوزى، من حيث اختزال الشجرة فى فرعٍ أو التقليم الجائر لبقيّة الغصون. بينما قدّم ميلاد حنا فى «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» صياغة أكثر تماسُكًا، بمزاوجته الهادئة بين الأبعاد الجغرافية والمتوالية التاريخية، وأدوارها فى سبك المُجسّم الأخير كما نعرفه اليوم.
 
وظيفة الهوية أن تكون أداة توحيد لا تنازع، وهى بهذا الدور تُفتّش عن المُشتركات لتوسعتها، وترصد التمايزات لترشيدها، وتقبض على طاقة الإغناء فيها جميعًا. الحقيقة أننا إزاء هويّات مُتعدّدة لا واحدة: البيئة، والعِرق، والعقيدة، والاجتماع والاقتصاد، كلها تفعل فى مجالاتها المباشرة بما يُكسبها طابعًا خاصًّا، وعلى الصيغة الجامعة أن تحترم التنوّع وتصنع منه قُوامًا مُتجانسًا ومُنضبطًا. مصر بلد مدنى دستورى مُحايد أمام جميع أبنائه، يمكن أن تكون هويّتها عربية بنكهة إسلامية؛ لكن هذا لن ينفى تعدُّد مشاربها الثقافية والعقائدية، وأن تكون مُتوسّطية دون خروج من حزامها العربى والأفريقى، وديمقراطية مُنفتحة من غير قطيعة مع ماضيها وتصالحٍ عليه، وفى كل ذلك تعكس صورًا تآلفية عابرة للتقسيم من العادات والطقوس وأنماط المعيشة. الهويّة باختصار: مساحة تثبُت فيها الجغرافيا ويتحرّك الزمن فى صيرورته الدائمة، ولا سلطة أو قدرة على تثبيت المشهد واختزاله فى لقطة واحدة.
 
أثارت نقاشات الحوار الوطنى أمورًا جدّية عن التعليم، وبيئة الاتصال الجديدة، وعن الفن والثقافة والقيم والوعى وعلاقتنا بالتراث والعالم، وكلها مفاتيح مهمّة ومُرتكزات وطيدة؛ لكن لا يجب القفز على أن سؤال الهوية يُثار عندما يغيب الاتفاق عليها أو يكون واقعها مأزومًا، وإذا كان الصراع والتمايز احتياجًا أصيلاً لرسم حدودها، فإن التنازع الداخلى فيها يُعطّلها عن أن تكون قوة دفع نهضوية. من هنا يجب أن تكون المُقاربة واعيةً بطبيعة الظرف، وهواجس التكوين والانتماء، وآثار الإجابات المُحتملة على الواقع والمستقبل. الهويّة ليست تعريفًا إجرائيًّا نصُكّه ونمضى؛ لكنها تعبير عن قوى وتوازنات وصيغة تعايش، وعن إدراك حقيقى لفاعلية كل عنصر وحضوره فى نتاج المعادلة، ومن ثمّ فى إرساء قاعدة وطنية مُستقرّة، وامتلاك وصفة ناضجة لمحاورة العالم. هكذا لا يكون الانفتاح على اللغات خطرًا، ولا على فنون الآخرين وفكرهم وثقافتهم، ولا تُتّخذ لافتة «القيم» ذريعةً إلى الانتصار لأعراف قديمة ضد سياقات مُستجدّة؛ إنما تكتسب الهويّة رسوخها وحيويتها من الحركة الفاعلة لا بالتجميد، وتصون نفسها وتتجدّد بالممارسة الناضجة لا بالتقوقع والانزواء. غاية المطلوب أن يحترم ركاب القطار كل المحطّات، ويُدركوا أننا أثّرنا فيها وتأثّرنا بها، ولم يكن وقوفًا مجانيًّا يُمكن شطبه. نحن هنا لأننا عبرنا ما عبرناه، ولن نستطيع العودة عن قليل فيه أو كثير ولو أردنا؛ وبالتبعيّة فإن رغبة التعريف بحثٌ عن الفهم، وليست سلطةً حاكمة فى إعادة بناء المعنى.. مصر كتلة صلبة تفوقنا وعيًا، على الأقل بمنطق أننا «هنا والآن» جزء من الكل ومحطة على طريقها الطويل؛ لذا لا خوف على روحها، ولا قدرة لأحد على الخصم منها، أما الإضافة فقرارها الشخصى، كما كانت دائمًا، مع الوقت والحياة وعجلة التاريخ.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة