قفزة واسعة حقّقتها شركة «ميتا»، المالكة لمنصّات فيس بوك وانستجرام وواتساب، بإطلاقها تطبيق «ثريدز» للتدوين المُصغّر، فى إطار الاشتباك المباشر مع «تويتر» ومالكه الجديد إيلون ماسك. تبدو الخطوة فى ظاهرها عضًّا للأصابع بين اثنين من عمالقة التقنية؛ إلا أنها تُلخّص فى العُمق حلقة جديدة من مُسلسل السطو الديجيتال، ومحاولات الهيمنة والاحتكار، كأننا إزاء «امبريالية رقمية» بات مارك زوكربيرج مُمثّلها الأبرز عالميًّا. تُوجب الحالة الراهنة، وما تسفر عنه من نزوع امبراطورى، إثارة أسئلة فرعية مهمّة بشأن طبيعة المنافسة فى العالم الجديد، وحقوق المُستخدمين ومُنشئى المحتوى، وفرص تنظيم العالم الافتراضى والتعامل مع أخطبوط مُتعدّد الأذرع تحت سقف القوانين الدولية والوطنية، وقبل كل ذلك ما يخص الأصالة والإبداع والابتكار، طالما ظلّ الأباطرة قادرين على مُصادرتها لصالحهم وقتما أرادوا.
الدخول من تلك الزاوية ليس دفاعًا عن تويتر، ولا مالكه الذى يراه البعض موتورًا وقاد منصّته لخسارة نصف قيمتها السوقية خلال سنة؛ إنما يخص سياقًا ما يزال عصيًّا على الترتيب بعد قرابة ثلاثة عقود من بشائره الأولى. ما فعلته «ميتا» الآن سبق أن جرّبته مع منافسين آخرين، وتورَّط فيه «تويتر» وآخرون من اللاعبين الكبار، وبينما يُنظر إلى التنافس والكفاءة وقيم السوق كضحايا مُباشرين لهذا السلوك؛ فإن المُستخدمين يتقدّمون طابور المُتضرِّرين طوال الوقت: إمَّا لأنهم يُجبرون على عقود إذعان مع شركات عملاقة بمخالب من نار وفولاذ، أو لأنهم يخسرون فرصًا أفضل للتنوُّع وتجويد الخدمات والتسابق على إرضائهم، وفى قلب ذلك تتولَّد مُمارسات ترقى للجرائم، بالنظر لضخامة الأرباح دون أعباء، ونهب جهود المُدوّنين والناشرين، والانفلات من كل الضوابط الناظمة لحقوق المجتمعات والأفراد وسلامتهم.
أعلنت «ميتا» أنها بصدد إطلاق منصّة مُنافسة لغريمها الأكبر، ثم جاءت «ثريدز» واقتنصت أكثر من 70 مليونًا فى أيامها الثلاثة الأولى. الانطباع الزاعق أن الشبكة الجديدة استنسخت «تويتر» بالقص واللصق، فى الفلسفة والميكانيزم والواجهة والخدمات المُلحقة، ما دفع الأخير إلى التهديد باللجوء للقضاء مُلمّحًا إلى اختلاس منظومته وأسراره التجارية. قد لا تكتمل خطوة التقاضى، أو لا تُفضى لشىء؛ لكن حصيلة هذا المسار لن تنفى أن المنافسة كانت خشنةً وتُلامس حدود السطو، وهو ما يبدو أنه بات شائعًا ومُتكرّرًا بين حيتان التكنولوجيا. سبق أن واجهت ميكروسوفت قضية احتكار ضخمة هدّدت بتقسيمها فى 1998، وحصلت «أبل» على أحكام ضد سامسونج وغيرها، واستنسخ يوتيوب و«فيس بوك» تجربة الفيديوهات القصيرة بكل ملامحها من «تيك توك»، وعندما فشل مارك فى الاستحواذ على «سناب شات» سطا على أهم مزاياه لصالح انستجرام، وكان لتويتر أيضًا نصيب فى مدوّنة السطو بإعادة إنتاج تجربة «كلابهاوس» من خلال إضافة «سبيس». فى كل ذلك وغيره استباح كبار مُطوّرى التكنولوجيا جهود الآخرين، ومرّ الأمر عاديًّا فى الشقّ الأخلاقى؛ حتى لو أفضى فى حالات قليلة للغاية إلى إدانة قانونية وغرامات مالية.
كان المعتاد أن يحاول مُطوّرون صغار وشركات ناشئة استنساخ التجارب الناجحة سيرًا على درب العمالقة: حدث ذلك من Mewe وDiaspora وMinds وVK بحق «فيس بوك»، ومن Mastodon وKoo وBluesky مع تويتر، ومن تليجرام وسيجنال وفايبر وبوتوم وتانجو مع «واتساب»، ودمجت الصين كل شىء فى «وى شات» ليكون أسلوب حياة شاملاً، وامتلكت روسيا عبر VK نسخة «فيس بوك» محلّية امتدت لبعض دول الكومنولث السوفيتى بأكثر من 10 مليارات رسالة يوميًّا؛ لكن كل تلك التجارب كانت أقرب إلى التماس خُطى النجاح، أو التمرُّد على تغوّل الكبار واحتكارهم؛ إنما أن يرتد الأباطرة إلى مُمارسات الصغار بعدما امتلكوا الخبرة والوصفة المُجرّبة، فإن ذلك يقع فى نطاق الجشع والانحراف واحتيال قطَّاع الطرق؛ لا سيما أنه يُوظّف المراكز المادية والمعنوية القائمة، والحصص السوقية المُهيمنة، من أجل إطاحة المنافسين أو إحكام الخناق حول أعناق المُستخدمين، وبالتبعية ينطوى على مزيدٍ من المكاسب السهلة واستمراء إهدار الحقوق.
تواجه «ميتا» وشبكتها الأضخم «فيس بوك» سُمعةً سيئة آخذة فى التنامى. كثير من سلوكياتها تضع سلامة الأفراد فى ذيل الاهتمامات، فباتت بيئة خصبة لخطابات الكراهية والعنصرية والتطرُّف، مع انخفاض فى منسوب احترامها لحقوق الإنسان، وإدانات ثابتة بتسريب بيانات المُستخدمين للمُعلنين وشركات التسويق ومُطوّرى تقنيات التعرُّف على الوجوه، وكانت فضيحتها الأبرز فى قضية «كامبريدج أناليتيكا» وتسريب بيانات أكثر من 80 مليونا خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016. بالتأكيد ليس «تويتر» أو غيره بعيدين عن اتهامات انحراف السلوك وانتهاك الخصوصية، حتى لو برّر «ماسك» قيوده الأخيرة على المُستخدمين بمواجهة شركات جمع البيانات. إزاء شيوع التهمة وتورُّط الجميع فى إساءة استخدام معلومات الأفراد؛ فإن استمرار تضخُّم الشركات الكبرى يزيد المخاطر، ليس لأنه يضع البيض كلَّه فى سلّة واحدة فقط؛ إنما لأنه يترك البشر فريسةً للجوارح العملاقة، من دون فرص فى إبداء التذمر أو ابتكار البدائل، أو حتى خوض مواجهات قانونية عادلة ومُتكافئة.
فى عشرات القضايا وجلسات الاستماع لـ«مارك» ومسؤولى ميتا/ فيس بوك بالكونجرس، كانوا يناورون دائما فى توصيف نشاطهم هربًا من المسؤولية: عندما تُثار مسألة إشاعة الكره وانتهاك القوانين يدّعون أنهم منصَّة تقنية معنيّة بالأمور الفنية دون ولاية على المحتوى، وحينما تُفتح ملفات بيع أو تسريب البيانات يردّون بأنهم ناشرون يُتيحون مساحة عموميّة وليس خدمات تأمين رقميّة. المراوحة بين التبريرين تُشير إلى قصدٍ مُضمر وسوء نيَّة لا يمكن تجاهله، والغاية من ذلك الهيمنة الكاملة على الوجهين ثم أنهار الأرباح المالية المُتدفّقة من مُشترى البيانات أو العنصريّين والخارجين على القانون. والتوسُّع تحت تلك الصيغة، من دون تنقيح أو تفكيك، لا معنى له إلا مزيدًا من التوحُّش والانفلات والانفراد بتقرير مصير مليارات البشر، وفوق كل ذلك هضم حقوق الأسواق وقضم المزايا من الاقتصادات الناشئة.
يبدو مالكا تويتر وفيس بوك على طرفى نقيض. يجمعهما العمل فى التقنية؛ لكن الأول دخل المجال من بوابة التطبيقات العملية وتحقيق طفرات نوعية فى السيارات وتقنيات الاتصال ونقل المعلومات، سعيًا إلى تحسين الواقع، ويُراهن الثانى على الاستثمار فى العزلة ومعاداة الواقع نفسه؛ لهذا كانت خطوة شراء «تويتر» بحسب المالك الجديد ردًّا على ما رآه انحرافًا، بينما يُوغل منافسه فى ترسيخ الانحراف وشرعنته. لم تقدم «ثريدز» أيّة قيمة مضافة مقارنة بالمنافس، اللهم إلا زيادة عدد الحروف ومدّة الفيديو وغياب خدمة الرسائل المُباشرة وأداتى الهاشتاج والتريند، لكنه يُتيح بين خيارات المُشاركة إعادة بثّ منشوراته عبر «تويتر». يبدو الأمر استهدافًا مُباشرًا ومقصودًا؛ لا مجرّد منافسة تقنيّة أو تجارية. هنا لا يُمكن استبعاد موقف «ماسك» المُعارض لتسريع تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعى، وتوقيعه عريضة مع آخرين قبل أشهر تدعو الشركات لإبطاء مُختبراتها، بينما يأكل «مارك» الأرض والفضاء لدمج التقنية فى منتجاته واستكمال بيئته الجديدة «الميتافيرس». رغم سوء ممارسات مالك «سبيس إكس» وغرائبيته الواضحة، إلا أنه يبدو أو يسعى للظهور كما لو كان حكيمًا يصيح فى الناس لترشيد خسائر العاصفة، بينما غريمه ينفخ بجسد مؤسَّسته الضخم من الجهة المقابلة؛ حتى يُطيح العوائق والخصوم معًا. أيهما على صواب؟ ربما ليس من واجبنا الإجابة، ولا فى قدرتنا تعطيل المسيرة وعكس عقارب العصر الرقمى؛ إنما يتعيَّن علينا جميعًا العمل لضمان انضباط تلك الفورة بحدودٍ موضوعية من القانون والقيم.
يُعزّز سرديّة الاستهداف أن «ميتا» لم تبدأ تجربتها الجديدة من الصفر؛ إنما أسَّستها على أكتاف مليارى مُستخدم بقاعدة بيانات انستجرام، وتُتيح مزايا مُغرية بالتسجيل فى خطوة واحدة أو توثيق الحسابات عبر المنصّة الأم؛ لكنها ترهن حذف حساب «ثريدز» بالتخلِّى عن انستجرام، سعيًا إلى تقييد المُستخدمين إلى جدار الشبكة الجديدة كأنها تذكرة سفر وحيدة الاتجاه. الرهان الظاهر أنهم يسعون لإقصاء «تويتر» والاستيلاء على احتكاره لعالم التدوين المُصغّر؛ لكن قد يكون صعبًا إنجاز المهمّة بالنظر للظهير الترفيهى الخفيف الذى تستند إليه «ثريدز» مقابل نخبوية الغريم وطابعه الرسمى. الأمر أقرب إلى دخول حفل رسمى بملابس البحر؛ والأرجح أنه مهما توسَّعت قاعدة النشطين فى مُستنسخ «ميتا» فلن يتبع ذلك خروجهم من تويتر بوتيرة تُعزّز هيمنة الأول وتكتب شهادة وفاة الأخير. قد يكون مُبكّرًا الحكم على التجربة؛ لكن الأجواء حتى اللحظة يُلمح فيها تحفُّظ من المُشتركين الجُدد، وقلّة تغريدات الأغلبية، مع شيوع روح ترفيهية أقرب لطبيعة انستجرام بنكهته الخفيفة وغلبة الصور والمواد الخفيفة. ربما حينما اختارت «ميتا» البدء من نقطة القوة فى تطبيقها الشبابى المُنمَّق كانت تُحدِّد فضاء التجربة وتحكم عليها بالاختناق فى نطاق لن تفارقه، ورغم احتمالية أن يتقدّم ليقتنص رهانات مُؤسِّسيه أو بعضها، فمن المحتمل أيضًا أن يُصبح فرعًا مُلحقًا على انستجرام، ونسخة مُشوّهة من تويتر، لا سيما أن قاعدة بياناته يغلب عليها المراهقون والمُؤثّرون التجاريون، كما أن خبرة البقيّة ولو من النُّخب أن تلك المساحة حيِّز ترفيه خفيف، لتبادل الصور والفيديو برسميّة أقل وغيابٍ شبه كامل للنصوص الجادة والمُعمَّقة، وقد يطبع هذا التصور أداءهم هناك، حتى مع اللجوء لنصوصٍ قصيرة، ستغلب عليها وقتها الخفَّة والسطحية وحالة الفضفضة والتجارب الشخصية البسيطة.
تويتر بيئة خصبة للمُتطرّفين، إخوان ودواعش، لكن «فيس بوك» ليس خصمًا لهم؛ بل يمنحهم حضورًا أوسع بالمُمارسة أو التعاون. فى 2020 أعلن تشكيل مجلس حكماء للبت فى أمور المحتوى وضمّ لعضويّته الإخوانية توكل كرمان، ولا فارق بين المنصّتين فى مسألة الحسابات الوهمية واللجان الإلكترونية والأنشطة المشبوهة وتغوّل الإسلاميين واختراقهم لبيئة العمل وفرق مراجعة المضامين ومعايير المجتمع، ولا فى رواج الشائعات والمواد المُضلّلة، وعدم الوفاء بالتزامات الضرائب والرسوم عن الأرباح التجارية فى أغلب أسواق العالم. هكذا يبدوان تهديدًا حقيقيًّا لفكرة المعرفة والحرية فى وجهها السليم، وإلى ذلك يُهدّد الذكاء الاصطناعى الناشرين ومنصّات الأخبار والمحتوى المتوسّطة والصغيرة؛ إذ يُبشّر بصيغة احتيالية من جمع المعلومات وعرضها داخل مُحركات البحث أو عبر واجهات المساعدات التوليدية الجديدة مثل Chat GPT وBard وBing وما قد يُستجدّ.
أيًّا كانت المحطّة التى ستؤول إليها تجربة «ثريدز»، فإن إشارات البداية أهم ما فى الموضوع. أخطأ «ماسك» وتداعى تويتر، ولعلّ العالم الرقمى فى حاجة إلى حالة بديلة فعلاً؛ لكن السطو واستنساخ التجارب وتعزيز مراكز المُفترسين الكبار ليس الحل. ما تزال المجتمعات الرقمية فوضويّةً وغير آمنة بعد ربع القرن من تتابع تجاربها، يحتكر جوجل 93 % من سوق البحث، وتُهيمن «ميتا» على حياة مليارات المستخدمين وأموالهم، وفرص نفاذ لاعبين جُدد لتلك السوق تبدو بالغة المحدودية، وكلّما نجح أحدهم فى الاختراق اشتروه أو أطاحوه خارج الملعب بخشونة. لا نعلم إن كان «ثريدز» شركة مُستقلّة أو تابعًا لانستجرام، لكن الأكيد أنهما ومعهما فيس بوك وواتساب وميتا الأم بما تُطوُّره من منتجات إضافية، يقبض عليها شخص واحد. غادر العالم «كولونيالية السلاح» والاحتلال الجغرافى المباشر؛ لكنه يواجه الآن امبريالية ناشئة من رحم طفراته المعرفية، وكما استباحت جيوش الماضى موارد ضحاياها وحياتهم، يعيد مُحتلّو الحاضر إنتاج المرحلة بكل لُصوصيَّتها وتوحُّشها واستباحتها للقوانين والقيم، بأدوات «ما بعد حداثية» مُبتكرة ومُخادعة. كأن زوكربيرج يسعى إلى أن يحكم العالم ويستعبد سكانه جميعًا من وراء شاشة باردة، وحتى نتجنَّب كُلفة معارك الاستقلال وطلب التحرُّر مُستقبلاً، فقد يكون واجبًا أن نسعى إلى رسم الحدود، الآن وليس غدًا.