حازم حسين

إقطاعيات التكنولوجيا وتأميم الواقع.. كلنا صيّادون وفرائس فى غابة السوشيال ميديا

الثلاثاء، 11 يوليو 2023 02:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جاءت طفرة التواصل الرقمية لخدمتنا؛ فانتهى بنا الأمر محبوسين تحت رحمتها، ومُجبرين على خدمتها.. باتت المنصَّات الاجتماعية غولاً يقطع طريق الواقع، من حيث يُبشِّر طوابير المُتدفّقين على حظيرته بأنه يُيسّر لهم إدارة مجالاتهم الحيوية، بكفاءة وإتقان ومزايا معرفية وترفيهية. أمّا أخطر ما فى التجربة أنها قادرة طوال الوقت على الإيهام، وتجديد طاقتها الإقناعية بقليل من التلوّن، أو بتوظيف المُتطوّعين من خارجها ضد بعضهم. لا تُقدّم الشبكات العنكبوتية طعامًا كافيًا لكل الواقفين على أطراف الخيوط، إنما تُحكم غزل المصيدة، وتدفع الأفراد وراء بعضهم؛ ليكونوا فرائس وصيّادين فى الوقت نفسه. تنطوى اللعبة على تشكُّلات خداعية ضخمة؛ إذ بينما تُفترس من جانبٍ تُغازلك فريستك فى ناحيةٍ أُخرى، فتصبح الآكلَ والمأكول بينما يُراقب حُرّاس العالم الرقمى أقفاص الصيد، ويُضبطون قواعد المُطاردة. يُمرّرون أغراضهم كاملةً ويُربحون ما يطمعون فيه، وبدورك تبتهج ببلاهةٍ واستمتاع، دون أن تشعر بأنك أداةٌ طيِّعة على طول الخطّ.
 
احتاج البشر قرونًا من أجل الوصول إلى تنظيمٍ اجتماعى ضامن لبقائهم؛ ثم استهلكوا أضعافها فى إدارة صراعاتهم بالقوة والسياسة، إلى أن رسَّموا الحدود والأعراف بين الجغرافيا والثقافات والأعراق. الآن تدخل حركة التاريخ الإنسانى مُنعطفًا حادًّا مع استعمارٍ رقمى جديد، إذ يُدار العالم عبر قائمة من الشركات العملاقة، خارج نطاقات وموازين القوى التقليدية المُعتادة وسابقة التجريب. علامات تجارية مثل: ميتا وجوجل وأبل وتويتر، باتت أكثر قوّة وتأثيرًا من حكوماتها، ومن أنظمةٍ ناشئة ومحدودة المعرفة بطبيعة الحال. صحيح أن ذلك لا يفتئت على حركيّة الزمن وتراكم الخبرات البشرية؛ إلا أنه يجرى تأميمه، أو بالأحرى خصخصته، والاجتهاد فى مُصادرة مكاسبه لصالح دائرة ضيِّقة من المُتنفّذين. إذا كانت الرأسمالية حلقةً تطوُّرية بين بدائية الاقتصاد الريعى وحلم العدالة الكاملة، حسبما يرى أنصار التوجُّهات الاجتماعية؛ فإن ما يحدث فى سوق التقنية ربما يكون أقرب إلى إعادة إنتاج الرؤى الإقطاعية القديمة؛ ولأنها تُبنى ضمن سياقٍ أثيرى غير مادى، فمن الصعب أن تقود الصيرورة الطبيعية مستقبلاً إلى تمكين «عبيد الحقل» من تنظيم الصفوف، وتحرير أنفسهم، وانتزاع الأرض «الافتراضية» من أيدى السادة الجُدد.
 
يُعزِّز المخاوف أن أباطرة العصر الرقمى لا ينشغلون بترقية عُمّالهم، وتحسين شروط الأَسر للواقعين داخل أقفاصهم المُذهّبة؛ بقدر ما يدفعونهم إلى مزيدٍ من النَّهم الاستهلاكى المُنفلت، بما لا يسمح بمُراكمة معرفةٍ وخبراتٍ حقيقية، وضرورية من أجل التمرُّد وامتلاك الرغبة والقدرة على تقويم المسار. أمام انتقادات مُتواترة لشيوع المعلومات المُضلِّلة وخطابات الكراهية والتطرُّف وتسليع البشر، تُنفق المختبرات الرقمية العملاقة على تطوير خوارزميات الانتشار وتقنيات الجاذبية والإغراء، مُقابل قصورٍ واضح فى مُواجهة الأكاذيب والشائعات والتزييف العميق واختراق الخصوصية وانتهاك معايير حقوق الإنسان؛ رغم قدرتهم على الوفاء بالاستحقاقات المطلوبة لترسيم معالم بيئات رقمية آمنة. لعلّ الربح غاية أسمى بين أولوياتهم من بقيَّة الحاجات الماسّة؛ لكن لا يمكن تجاهل أن إبقاء الأوضاع على حالها إنما يمسُّ فلسفة تلك المنصَّات ومُستهدفاتها الأكثر جوهريّة، من حيث تغليب اعتبارات الاستهلاك، والترويض الدائم، وتعقيم قنوات النُّضج المُحتملة، وذلك عبر توظيف أدوات المعرفة فى حصار فرص الوعى والتعلُّم، أو فى إشاعة الجهل والشَّحن العاطفى، وتوجيه طاقات المستخدمين نحو الحاجات الأوَّلية، وتعميق الفرز والتقسيم على قواعد نفسية واجتماعية «ما قبل حداثية».
 
انطلقت الثورة الرقمية من الواقع، وكان يُفترض أن تنشغل بخدمته والتشابك معه والعمل على تطويره؛ إلا أنها أزاحته جانبًا لتستعيض عنه بتمثُّلات مُصطنَعة، تتشبَّه به لكنها تنفصل عنه. يشيع بين غالبية الناس وصف الشبكات الاجتماعية بـ«الواقع الافتراضى» على خلاف الحقيقة. لم يعد الأفراد قادرين على الإحاطة بواقعهم، ثم تعريف انعكاساته مُتعدِّدة الطبقات والألوان فى زحام المرايا الرقمية المُخادعة. إسباغ صفة الافتراضية، بما تعنيه من خلقٍ كامل، على منصَّات اتّصال يحضرون فيها بذواتهم الحقيقية، إنما يُشير إلى انفصالٍ عميق عن الواقع، وعن المنصَّات والذات أيضًا. هذا ما يريده صُنّاع التكنولوجيا على الحقيقة، أن تتحول كلُّ المُفردات إلى رموزٍ تكتسب دلالات فرديّة خاصة لدى كلّ مستخدم، فلا تُصبح هناك لغةٌ مُشتركة، ولا موقف واضح، ولا قابلية لإنتاج صيغة إجماعية فى النظر للصور المُصطنَعة، وفى هذا المناخ ينفصل الفرد عن المجموع خالقًا مركزيّة شخصية، تتصارع مع الآخرين بدلاً من التكامل أو التفاعل الخلّاق، ويسود الجدل والشقاق، وتحت سقف الحالة الصراعية يتّخذ التواصل صيغة الحرب، فيتأمَّنُ استفحالُ الخلاف، واستمرار الطلب وشهوة الاستهلاك كذلك.
 
يرى الفيلسوف الفرنسى جان بودريار فى نظريته عن «الواقع الفائق»، أن الصورة تفوَّقت على ظهيرها الحقيقى، فأصبحت بديلاً عنه فى وعى المُستهلكين. الفكرة بإيجاز؛ أن الرقمنة أتاحت للجميع إعادة تحرير الواقع بمعايير تستجيب لما يتخيَّلونه عنه، أو يُحبّونه لأنفسهم، ومع الإغراق فى تلك الواقعية المصنوعة تتقدّم الصورة على الأصل، فيُصبح ما نُوهم به أنفسنا هو الواقع الذى نحياه فعليًّا، بينما ما نعيشه يوميًّا يُستَبعد إلى حيّز العبء الذى نستهلكه جبرًا بينما لا نُحبّه ولا نريده. هكذا يُنتج المُؤثّرون والفنّانون والشخصيات العامة وصُنّاع المحتوى والعوام تلالاً من المواد البصرية، يسجنون أنفسهم فيها ويصطادون بها ملايين المسجونين الجُدد بإرادتهم. كلَّما تمادى الفرد فى توظيف التقنية من أجل خداع نفسه؛ ساعد على إيهام الآخرين ثم تورَّط لاحقًا فى أوهامهم أيضًا. أصبحنا جميعًا نتقمَّص واقعًا لا وجود له، بالصورة والكلمة والشائعة والتحليل الاعتباطى، ويُساعدنا حيتان التكنولوجيا على أن نبقى فى الفخّ، وأن نُواصل تعميق الحُفرة حول أجسادنا المُتخيَّلة وأرواحنا الغاطسة فيها بالكامل.
 
تُنتج صِيَغ التواصل المصنوعة بعناية فائقة نمطًا مُستحدثًا من الاغتراب. فى النظرية الماركسية يقع الشَّرخ بين العامل وإنسانيّته؛ نتيجة عجزه عن إدارة علاقاته وتوازنات القوى المُحيطة وأنماط الإنتاج والوصول للإشباع، إذ يتحكَّم البُرجوازيّون فى مساره ومصيره ويستحلبون طاقته من أجل مُراكمة فائض القيمة، فيُصبح عاجزًا عن الانخراط فى المُعادلة؛ رغم أنها لا تقوم أو تتوازن من دونه. ما تفعله وفرة التقنية واصطناعها لواقعٍ بديل أكثر جودة من الواقع الحقيقى، أنها تُحوّل المُستخدمين إلى عمّالٍ بأجر لدى منظومة الرقمنة وإنتاج وبثّ المحتوى، فيجدون أنفسهم أمام مسلكٍ اضطرارى يكدحون فيه من أجل تغذية ماكينة الخداع والتضليل، لأنفسهم قبل الآخرين. ظاهر الصورة أنهم بنَّاؤون يحملون أحجار الأُمثولة الرقمية على أكتافهم حتى ينعموا فى براحها بعد اكتمال البناء، ولأنه لن يكتمل إطلاقًا فالمُحصّلة أنهم يُستَعبَدون فى حالة سُخرة مفتوحة، لا يسمح لهم فيها بتوهُّم المنفعة إلا بقدر ما يكفى لإيقاظهم مُجدّدًا من أجل استكمال «العمل السيزيفى» الذى لا ينتهى تدحرجه على المُنحدر الوَعِر.
 
فتحت الشبكات الاجتماعيّة باب التمكين لفئات واسعة من المُهمَّشين فى الأبنية الاجتماعية والاتّصالية القديمة؛ فبات الجميع يحوزون فاعليّةً مُتكافئة فى إكمال النصوص غير المُكتملة. لم تعد للخبر والصورة والمعلومة وحتى المُزحة دلالةٌ إلّا بقدر اشتباك المُستخدمين معها، ودفعها إلى الواجهة أو إكسابها موقعًا جدليًّا فى التداول اليومى. قد يبدو فى ذلك شىءٌ من ديمقراطية المعرفة وتوزيع السُّلطة؛ إلّا أنه فى المُمارسة العملية أنتج «حداثة زائفة» بحسب مفهوم آلان كيربى، ربما لأنه يُغلِّب الانفعالات الظرفية على التفاعلات الاجتماعية وجدليّة الأفكار والنزعات النقدية المُنضبطة معرفيًّا. شُيوع القضايا وشهوة الفاعليّة يدفعان الأفراد للانخراط فى كلِّ الموضوعات بشبقٍ، قد لا يُعبّر عن الاحتياج الحقيقى أو الجاهزية الكاملة للعب تلك الأدوار. أصبح الاتّصال غايةً، والإدلاء بالرأى مُمارسةً حيويّة للكائن الرقمى، تقوم مقام الأكل والتنفُّس والإخراج لدى مُقابله البيولوجى، ومن هنا يُثير الفرد غبارًا كثيفًا فى موضوعات من حقولٍ شَتّى، مُختبئًا خلف المجهوليّة وغياب الوصف الدقيق للشخصية وخبراتها، والقدرة الكاملة على التفلُّت من واجبات الإفصاح، أو إلقاء القُنبلة والاختباء وراء الحضور الشَّبَحى. تلك الوضعيّة تُسقط سُلطة المعرفة، وتُقدِّم الغريزة على العقل، ويتحدَّد الانتشار فيها بقدر الاستجابة لأجواء الاستقطاب والشحن والغرائبية، لا بمعايير الجدارة والمنطق والإقناع.
 
تبدو الصيغة بكاملها انتحالاً يُعادى الواقع فى جوهره؛ إذ يفصل الأفراد عن بعضهم من حيث يتلبَّس صيغةً اجتماعية يُفترض أن تجمع لا تُفرّق، وأن تُرسِّخ فاعليّة التواصل بما يُنمّى الخبرات واللغة المشتركة. كأننا إزاء «واقع جُوّانى» ينبع من داخل كل مستخدم، فينخدع به الآخرون ويستخدمون مفرداته فى بناء واقعهم الجُوّانى المُناظر. ما يطرحه المشاهير والعوام ليس أكثر من تصوُّرهم الخاص عن العالم المحيط، لكنّه يُصبح مقنعًا لهم؛ لأنه يستجيب للرغبات الذاتية المُتخيَّلة، أكثر من وضعهم أمام الحقائق. هكذا تُحقِّق الصورة المُختلَقة إشباعًا لصاحبها وتحفيزًا للآخرين، وتُصبح الشائعة والادّعاء واستعارة السياقات والتريند والشهرة والتحقُّق والمنافع الرقمية بدائل سهلةً عن نظيرتها فى الزمن الطبيعى. لهذا تتدفَّق طوابير كثيفةٌ يوميًّا من صناع المحتوى الجُدد دون جدارةٍ أو قيمة مضافة، ويتلقّفهم المُوالون والمُعادون إمَّا نكايةً فى النُّخَب التقليدية وقوانينها القديمة، أو رغبة فى الاستعراض والبروز من زاوية الانحراف والمُخالفة. الجميع يُمثّلون أدوار الخير والشر حسب السياقات وأسبقيّة تسجيل الحضور، لا وفق المواقع الطبيعية المرسومة بين تلك الفئات إن تقابلوا فى دروب الحياة اليومية.
 
المُؤكَّد أن الرقمية ليست شيطانًا، والمنصَّات الاجتماعية لا تخلو من مزايا؛ إنما فى الأخير لا تنفصل جَردةُ الحساب عن وعى المُستهلكين وقدرتهم على استيعاب التجربة، والتجاوب معها من دون قطيعةٍ أو تورُّط كامل؛ إذ فى الأمرين يتحقَّق الانعزال وتقع الخسارة: بالتأخُّر عن مسيرة التطوُّر، أو الانعزال عن الواقع المعيش، ولا يمكن أن يستقيم النموُّ المعرفى، حقيقيًّا كان أو افتراضيًّا، إن تأسَّس على انفصالٍ عدائى عن الحياة. المنصَّات تُقدّم نفسها بديلاً كاملاً عن الاجتماع الإنسانى فى وجهه القديم، والبشر بطبعهم مُغرمون بالجديد وتحكمهم شهوة الوصول إلى النموذج «السوبر»، وإذا تعذَّر إثبات الذات فى الشارع فربّما تكون الشاشات تعويضًا مقبولاً. يبدأ الأمر من التنشئة الأسرية، والتعليم، واستعادة زخم الاتصال الإنسانى المُباشر بمزيد من الأنشطة والخدمات وبرامج التشبيك الحىّ. لكن لا بديل عن الاشتباك مع الشقِّ الاجتماعى من الظاهرة الرقمية، وتفكيك تعقيداته؛ حتى يكون واضحًا للمُنخرطين فى تلك المساحة أنهم يختلقون واقعًا زائفًا ويستهلكونه، وكل ما تُساعدهم فيه الشبكات العنكبوتية العملاقة أن يتمادوا فى خداع أنفسهم، ويواصلوا العيش تحت سطوة الوهم.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة