دخل الإخوان عتبة يونيو حاملين كل شىء تقريبًا؛ ثم خرجوا منه صفر اليدين. سنة واحدة كانت كفيلة بإحراق ميراث العقود الطويلة، وتبديد أوهام الجماعة، ووضعها فى مواجهة صفرية مع جموع المصريين.. أبرز الدروس أنه لا قِبَل لفصيلٍ مهما بلغت قوّته المزعومة أن يصطدم بشعبٍ كامل أو يُصادر دولةً كبرى وصاحبة حضارة وتاريخ من بابها، وأقسى ما فيه على المهزومين تجرُّع سقوطهم المُدوّى بعدما تصوّروا أنهم حازوا غايتهم المُعلّقة منذ التأسيس، وجاءتهم الضربة القاصمة من حيث توهّموا أنهم أحرزوا التمكين. والأكثر مرارة أن الخسارة طالتهم فيما يعتبرونه «شهر الحظّ»، الذى حمل لهم فى سوابق السنوات كثيرًا من البشائر والمكاسب، وبعض لحظات التشفّى فى الخصوم والمنافسين والبلد بكامله.
عندما حملت رياح السياسة والتربيطات السوداء مُرشَّح الإخوان «الاستبن» محمد مرسى إلى الرئاسة فى يونيو 2012، ربما استعادت الجماعة ذكرياتها مع أنجح تجاربها الإقليمية حتى اللحظة. إذ قبل 23 سنة من الوصول لعرش مصر، نجح عمر البشير فى اختطاف السودان عبر انقلاب عسكرى ضد حكومة الصادق المهدى، بمعاونة مدنية قدّمها الكادر الإسلامى حسن الترابى، فيما أسموه «ثورة الإنقاذ الوطنى». قال العميد الإخوانى وقتها إنهم تحرّكوا «لإنقاذ البلاد من أيدى الخونة والمُفسدين، لا طمعًا فى مكاسب السلطة، بل تلبيةً لنداء الواجب فى إيقاف التدهور، وصَون الوحدة الوطنية من الفتنة، وتأمين الوطن ومنع انهيار كيانه، وإبعاد المواطنين من الخوف والتشرُّد والجوع والشقاء والمرض»؛ لكنه على مدى الثلاثين سنة التالية كان على العكس من كل ذلك، فدفع البلد على المُنحدر بغشومية وسرعة أكبر، ومكّن فاسدى الجماعة وشراذم الإرهاب، وفتّتت تماسك السودان وأشبع السودانيين قتلاً وخوفًا وتشريدًا، ولعلّ السيناريو نفسه كان يُحضّر لمصر تحت سُلطة المُرشد.
كانت خطوة البشير مع الحركة الإسلامية «إخوان السودان» إيذانًا بانتصار مُخطّط الجماعة، حسبما تخيّله حسن البنا قبل ستين سنة؛ لهذا نُظر إلى التجربة باعتبارها نصرًا أوّل على طريقٍ طويل، غايته تطويق المنطقة، وتُفّاحته أن يسقط القلب الصلب «القاهرة» فى حِجر التنظيم. ربما كانت ذكرياتهم مع يونيو أنه شهر العطايا الوفيرة؛ إذ فيه افتتحوا أول مقرّ ومسجد، وعقدوا باكورة مؤتمراتهم الدورية واجتماعات مجلس الشورى، وأسَّسوا فرقة المسرح ومجلّتهم الأسبوعية، وأطلقوا قاعدتهم الدولية بـ18 شعبة فى 11 دولة، وفجّروا قنبلتهم الأولى فى حارة اليهود، وفيه فاز «مرسى» وأدّى القسم وقرّر إعادة مجلس الشعب بالمخالفة للإعلان الدستورى، وعلى ضفّةٍ مقابلة كانت ذكريات المصريين مع الشهر قاسيةً ومُزعجة، إذ وقعت فيه هزيمة يونيو 1967، وأعلن «عبدالناصر» تنحّيه عن الحُكم؛ فكأن القدرَ يُكافئهم بالهدايا على قبر أشرس خصومهم، وفى أحلك مناسباته الدامية؛ لكنهم تناسوا أن يونيو أيضًا كان شاهدًا على الجلاء وتمام استقلال مصر، وعلى اصطفاف الملايين حول زعيمهم رفضًا للانكسار، وعلى التحضير لمعركة «رأس العش»، وإطلاق حرب الاستنزاف الجليلة بكل ما فيها من بطولةٍ وفَخَار، وعلى أسبوع تساقط الطائرات الإسرائيلية «مذبحة الفانتوم» واستكمال حائط الصواريخ وعيد القوات الجوية «30 يونيو 1970»، كرسالة لاهبة تُؤكد عصمة سماء مصر تمهيدًا لتطهير أرضها. كان يونيو رفيقًا بالإخوان حسبما يتصوّرون؛ لكنه كان اختبارًا عبره الشعب بسواعده العارية، من دون منحٍ مجانية أو مُجاملات قدريّة عابرة.
لم تكن علاقة الجماعة الأُمّ فى مصر بفرعها السودانى عابرةً أو تشابهًا فى الاسم والجذور فقط؛ إنما كانت رباطًا عضويًّا لم ينقطع، لا قبل انقلاب البشير ولا بعده؛ بل توطّد مع مرحلة حكومة الإنقاذ لفائدة مكتب الإرشاد وأجندة التنظيم الدولى. كانت الخرطوم محطّة ثابتة لدى قادة الإخوان، ومُرتكزًا لحركتهم وأنشطتهم القذرة وروابطهم المشبوهة، ولا يُمكن فصل ما وفّرته لهم بعد يناير 2011 من حاضنةٍ ومُعسكرات تدريب وخطوط تسليح، عمّا مارسه النظام السودانى منذ أواخر الثمانينيات ضد مصر وغيرها من النطاقات الإقليمية. الدراسة المُقارنة للتجربتين الآن، بعد ردح من انتهائهما، تفضح ما بينهما من اتّصال وتشابهات، إلى حدِّ القول إن سنوات الإخوان السمراء فى الجنوب تُمثّل خلاصة فلسفة التنظيم، وما يملكه من أفكار وحلولٍ ومسارات عمل فى السلطة والسياسة؛ وبقدر ما يُشير ذلك إلى أن إطاحة الإخوان لو لم تحدث على مذهب 30 يونيو و3 يوليو «عزل مرسى»؛ فلم يكن من مفر لوقوعها ولو بعد سنوات، على طريقة أبريل 2019 «عزل البشير».
تسلّم البشير والترابى وإخوانهما السودان أكثر من مليونين ونصف المليون كيلو متر مربع، وتركوها مبتورةَ الرُّبع تقريبًا، ومُهدّدةً بمزيد من نزيف التراب والبشر والثروات فى الشرق والغرب. استقبلوا القاعدة وأسامة بن لادن، وفتحوا الباب لاحتضان وتدريب الإرهابيين والميليشيات، وأرسلوا جنودًا ومُرتزقة لبلدان مجاورة، ودبّروا مؤامراتٍ سياسية وعسكرية وصلت إلى استهداف القادة والرموز «محاولة اغتيال مبارك نموذجًا فى أديس أبابا 1995»، أهدروا الثروات وبدّدوا الموارد وأفقروا البلد والشعب، ودشّنوا عصابات إجرامية مثل ميليشيا الجنجويد وورثتها «الدعم السريع» واستخدموها ضد الخصوم، ثم أطلقوا الرصاص على خصومهم فى عشرات جولات الاحتجاج، كما فى 2008 و2013 و2019؛ لكن بينما تطلّب الأمر منهم 30 سنة تقريبًا لتعبئة صحيفة سوابقهم وإغلاق قوس الإجرام لآخره، من سرقة البلد وتأميم السلطة والمؤسَّسات، إلى الذبح فى الشوارع والتصريح بأنه لا بديل عنهم إلا الموت والضياع؛ حرق نُظراؤهم المصريون كل المراحل فى سنة واحدة: استقبلوا المُسلّحين ودعموهم ونسّقوا مع آل الظواهرى «أيمن ومحمد»، وسعوا إلى تأسيس حرسٍ ثورى وقوى أمنية لتكون جيشًا وشرطة مُوازيين، وعمّقوا أزمات الاقتصاد والموارد والخدمات، ومكّنوا أعضاءهم والموالين على حساب معايير الجدارة والعدل، واستدعوا رموز الدم القُدامى ليتصدّروا المناسبات الوطنية ويردعوا الخصوم بالوعيد والعين الحمراء، وأبدوا قبولاً لتوطين الفلسطينيين أو منحهم قطعةً من سيناء، واغتالوا الحسينى أبو ضيف فى قلب القاهرة بسلاح الجماعة ووشاية فتاها البلطجى عبد الرحمن عز، وكذلك الضابط محمد أبو شقرة فى سيناء بإيعازهم وسواعد حُلفائهم التكفيريين. سيطرت الشراهة على صقور مكتب الإرشاد؛ حتى أنهم سعوا إلى ابتلاع المشهد الواسع بكل تناقضاته، بدلاً عن التسرّب الناعم والقضم البطىء.
نشوة اللحظة غلبت منطق التاريخ وفُرص التعقّل؛ ربما لأن قادة الجيل الثالث كانوا أقل ذكاءً من سابقيهم، أو أكثر طمعًا وشراسة. اعتبر شهود الحالة أنهم يُعوّضون إخفاقات ثمانية عقود، ويتحضّرون لحفر أسمائهم فى لحم الجماعة وذاكرتها المُؤبّدة، بينما تنمحى ذكرى المُؤسِّسين والآباء الأوائل بكل ما سجّلوه من فشلٍ تلو آخر، وعزّز غرورهم أن حلم التمكين يجىء ضمن سياق إخوانى عريض؛ حتى كأن خارطة المنطقة انفرجت أساريرها لتبتسم للتنظيم وتُعلن بدء عصره الذهبى: حضور طاغٍ فى محرقة سوريا، وتقافز على حبال حوثيِّى اليمن حينًا وغريمهم عبدالله صالح أحيانًا، وتصدُّر للسلطة فى تونس بواجهة صبيّهم المرزوقى وهيمنة رجلهم الغنوشى وحركته، وصعود بارز لفرع المغرب و«بنكيران» إلى سدّة الحكومة، وقبض على السلطة والسلاح ومفاتيح عمل الميليشيات فى ليبيا، ومن وراء ذلك إسناد من عواصم إقليمية كبرى ومُناوشات يُجرّبها صغارهم فى الأردن والكويت وعديد من نطاقات السياسة والدعوة والمال بالخليج، وظروف مُواتية للتمدُّد فى الغرب بمعاونة الإنجليز وقبول الأوروبيِّين ورعاية أوباما، بينما لا يزال «البشير» ونظامه الوالغ فى العنف والدم ظهيرًا راسخًا، وملعبًا مفتوحًا للتحضير والإمداد والتلويح بالقوة إن لزم الأمر.
لم يختلف إخوان مصر عن «البشير» وعصابته؛ إلا فى أنهم كانوا أكثر رماديةً وتخفّيًا، بمنطق التقيّة الذى استعاره «البنّا» من الشيعة. عاش إسلاميو السودان عمرهم كله تقريبًا بشعار دموى صريح: «فليعُد للدين مجده/ أو تُرق منَّا دماء/ أو تُرق منهم دماء/ أو تُرق كل الدماء»، ولم يُفكّروا فى تحويره إلا قبل الثورة عليهم بستة أشهر فقط، فى المقابل ادّعى مركزهم التنظيمى فى مصر أنهم إصلاحيّون مُسالمون؛ لكن أدبيّاتهم كانت أكثر إفصاحًا: من شعارٍ يُصرّح بـ«الجهاد سبيلنا والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا»، إلى أيقونة بصرية تحوّط المصحف بسيفين وتُحيل إلى آية تتحدث عن إرهاب الأعداء، وتفسير لم يضنّ به أغبياء القيادة منهم بين وقت وآخر، كأن يقول مصطفى مشهور: «نعم نحن إرهابيون»، أو يقول مأمون الهضيبى: «نتعبّد الله بأعمال النظام الخاص»، أو يُسجل عليهم أحمد رائف وأحمد عادل كمال وآخرون من بنية الجماعة وقائع عنف وإجرام لا تقبل التأويل. فى مُعتقد الإخوان فإن كلَّ مُخالفٍ لهم مطرود من جماعة المسلمين، إذ يرون سبيلهم وحدهم «سبيل الله»، ومن ثمّ يُصبح الآخرون جميعًا ضمن الأعداء المقصود إرهابهم ومن يحقّ فيهم الجهاد.
صعد الإخوان إلى الولاية الكبرى بعقلية العصابة لا الدولة، ولأنهم تنظيم لا عطاء له فى الثقافة والفكر، ولا خبرة فى السياسة والإدارة، اختاروا أن يُقزّموا مصر ويُقصقصوا أجنحتها لتكون على مقاسهم، بدلاً من الاشتغال على أنفسهم ليتطوّروا ويُصبحوا على قدر مصر ومقتضيات لحظتها الوطنية؛ فتعاملوا مع الرئاسة باعتبارها مكتبًا إداريًّا أو شُعبة مُتفرّعة عن الهياكل التنظيمية. مع حُكم الجماعة كنّا على موعد محتومٍ لا فكاك منه: لن يصبح البلد وطنًا حقيقيًّا، ولا الدين مُتّسعًا للسلام والراحة النفسية، ولا المجتمع فضاءً صالحًا للجميع على قدم المساواة. كان المُستقبل المُنتظر صورةً مُطابقة لما أحدثه عمر البشير فى السودان، مع فارق أن ما جناه «الكيزان» على الشقيقة الجنوبية خلال 30 سنة أنهاه بديع والشاطر وعصابتهما فى سنةٍ واحدة فقط؛ ما يعنى أن كل عام فى حُكم «مرسى» أو غيره من عرائس الماريونت البائسة، سيُترجم نزيفًا وخسائر بعشرات السنوات ممّا عاناه السودانيون فى محنتهم المُظلمة مع الإنقاذ/ الحركة الإسلامية.
التزم «البشير» حدود الحظيرة الإخوانية فى عشريّته الأولى؛ ثم منذ 1999 انقلب على شريكه «الترابى» مُستقطبًا أقرب تلامذته: على عثمان طه، وعوض الجاز، ونافع أحمد نافع وغيرهم. فى القاهرة كانت إطاحة محمد حبيب وعبدالمنعم أبو الفتوح عقب يناير 2011 مُؤشّرًا إلى حالة الانقسام، ثم اختيار «الشاطر» أن يكون محمد مرسى ورقته فى الرئاسة؛ على أمل أن يعود بنفسه بعد زوال الموانع القانونية، باختصار؛ كان الانقلاب الداخلى سيحدث بنائب المرشد الأول أو بآخرين. وكما رفع إخوة السودان شعار «الأسلمة» وفصلوا آلاف العاملين تحت لافتة «الصالح العام»، سار المصريون منهم على الخط نفسه: طردوا آلاف الكوادر، ومكّنوا عناصرهم محدودى الكفاءة، وسيطروا على الحكومة والمُحافظين، وأطاحوا نحو 1200 قيادة عسكرية وأمنية رفيعة، سعيًا إلى تجريف دولاب الدولة من ذوى الخبرات القادرين على تعطيل خُطط الابتلاع والهضم. حوّل «البشير» قضية الجنوب صراعًا دينيًّا، ودارفور إلى نزاع عرقى، وبالمثل أُديرت مشاحناتنا ما بعد يناير بموفور من الطائفية والعنصرية وتأليب المكونات الاجتماعية على بعضها: حدث فى قرية صول وفى ماسبيرو والعباسية والخصوص ومحيط الكاتدرائية وتحت عناوين النوبة والصعيد وسيناء ومطروح.
لأنهم مرض عضال؛ لا يُحب الإخوان الأجواء الصحية، ويُتقنون العيش فى مناخ الفُرقة والانقسام. كل ما فعله «البشير» كان سعيًا إلى تفتيت اللُحمة الاجتماعية، وما فعله قلب التنظيم فى القاهرة أيضًا. ما يعيشه السودانيون الآن من صراع بين الجيش والميليشيات، وقلاقل اجتماعية وأزمات اقتصادية وأمنية عميقة، كُلها من جناية الكيزان، وما يزالون نشطين ويُحاولون صب الزيت على نار الاشتعال الراهن بغرض التسرّب للمشهد السياسى من جديد. «بديع» ورفاقه كانوا يدفعوننا قهرًا نحو مسارٍ شبيه، وبعدما يستتبُّ الأمر وتدين لهم الدولة ستُصبح مفاتيح الاستقرار والفوضى فى أيديهم، وكلّما تأخرت الثورة عليهم صعبت إطاحتهم، وزادت فاتورة المعاناة والإرهاب. ربما لم تكن استعارة «أجندة البشير» مسارًا مقصودًا من الشاطر وبقية الصقور؛ لكنه على الأرجح خُلاصة السيناريو الذى يحفظه الإخوان ولا يُجيدون غيره، ولولا «30 يونيو» فربما لم نكن بعيدين الآن عن فوضى الحروب الأهلية والتقسيم، والتعاميم الأخلاقية المُزايدة على الناس فى معاشهم وملبسهم، أو كُنّا نواجه صراعًا مُحتدمًا مع بقايا ميليشيات التنظيم، كالذى تكتوى الخرطوم بناره الآن.