اعتزمت سيدة الغناء العربى أم كلثوم جمع مليون جنيه مصرى عبر إقامة أربع وعشرين حفلة فى أربع وعشرين مدينة مصرية، ليخصص دخلها لدعم المجهود الحربى، ودعم أعمال المقاومة العربية بعد هزيمة 5 يونيو 1967، وكانت مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة محطتها الأولى فى ليلة 17 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1968، ولم تقدم حفلاتها لدعم المجهود الحربى إلا فى أربع محافظات مصرية فقط هى، البحيرة، الإسكندرية، المنصورة، وطنطا، بخلاف حفلاتها خارج مصر، حسبما يرصد الكاتب والباحث كريم جمال فى كتابه المهم «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
كان الكاتب الصحفى محمود عوض ممن لازموها فى سنواتها الأخيرة، ويذكر شهادته عنها فى هذه المرحلة فى كتابه «أم كلثوم التى لايعرفها أحد»، وينقلها كريم جمال، قائلا: «بدأت شخصية أم كلثوم تنمو فى اتجاه جديد، بدأت تنمو فى السن التى يتكور فيها الجسم، ويتجمد الوجه وتتساقط الأسنان وتنطفئ الذاكرة، هنا تعود أم كلثوم شابة من جديد، فى السن التى تتدهور فيها الصحة، وينكمش العقل، وتضعف الرؤية، وتتثاقل الخطوات، بدأت أم كلثوم تعيش على سمعة حاضرها، وسمعة مستقبلها، فى هذه المرحلة فى هذه السن، فى هذه الظروف بدأت تصعد من جديد إلى قمة جديدة، قمة خيالية، فى هذه المرحلة، هذه الأيام، بدأ الجزء الفنى فى شخصية أم كلثوم يتراجع إلى الخلف، مفسحا مكانه إلى الجزء الأساسى فى شخصيتها، الجزء الوطنى، من الآن فصاعدا سوف تصبح مواطنة أولا، وفنانة بعد ذلك، المواطنة تقرر، والفنانة تنفذ القرار».
ذهبت أم كلثوم إلى دمنهور رافعة شعارها الجديد «الفن من أجل المجهود الحربى»، ويصف كريم جمال حالتها الغنائية وقتئذ، قائلا: «تحول صوتها منذ تلك الليلة إلى مدفع، ونبراته إلى طلقات، وفرقتها الموسيقية إلى كتيبة جيش كاملة تحارب بها أينما ذهب وأيَما غنت».
وعن ليلتها فى دمنهور، يقول «جمال»: «ذهبت الجماهير فى تلك الليلة الحارة فى أغسطس 1967 لتستمع إلى سيدة الغناء العربى كعادتها، ولكنها فى هذه المرة ذهبت أيضا لتسهم فى إعادة بناء وطن وإزالة آثار عدوان، فعلى أرض مركز شباب دمنهور وعلى مساحة ما يقرب من ثمانية آلاف متر، صمم مسرح كبير يليق بالسيدة أم كلثوم وحفلتها الأولى من أجل دعم المجهود الحربى، إذ حضر ما يقرب من 3500 مستمع ليدفعوا 38 ألف جنيه ثمنا لتذاكر الحفل هو الأعلى فى سجل حفلات أم كلثوم حتى ذلك التاريخ، إذ كان دخل حفلاتها فى العادة لا يتجاوز 14 ألف جنيه مصرى عن الحفلة الواحدة، لكن خصوصية ذلك الحفل وغرضه النبيل ضاعفا تلك الحصيلة، خصوصا بعدما زاد الفرق بين أسعار التذاكر ليتراوح ثمن التذكرة الواحدة من ثلاثة جنيهات حتى مئة جنيه كاملة».
يصف «جمال» حالة الإقبال على تذاكر الحفل، قائلا: «من بين تذاكر الحفلة كانت هناك مئتا تذكرة ثمن الواحدة منها مئة جنيه نفذت عن آخرها منذ اليوم الأول لطرحها فى منافذ البيع، بعدما اشتراها مئتا شخص أغلبهم من التجار والمزارعين وأصحاب الورش وصيدلى واحد وعضو فى مجلس الأمة، وأول من اشترى واحدة من تلك التذاكر هو السيد توفيق صاحب ورشة لإصلاح السيارات، أما صاحب التذكرة الثانية فهو أنور أبوشقرة تاجر خضراوات فى البحيرة، وبمجرد أن نفذت جميع التذاكر من فئة المئة جنيه، طلب محافظ البحيرة وجيه أباظة كشفا بأسمائهم وعناوينهم وزارهم جميعا فى منازلهم ليشكرهم على مساهمتهم فى المجهود الحربى، وعندما عجز أحد الذين اشتروا تلك التذاكر ذات المئة جنيه عن الحضور، اتصل بوجيه أباظة معتذرا، وأرسل له التذكرة متنازلا عن قيمتها، لأنه أراد أن تذهب من أجل الإسهام فى المجهود الحربى، وطلب أن يعاد بيعها، وهكذا وصل سعرها إلى مائتى جنيه، وهو شىء لم يسبق له مثل فى حفلات أم كلثوم».
يضيف «جمال»، طبعت تذاكر الحفلة وعليها عبارة وجيزة توحى بأهمية تلك الليلة وخصوصيتها، وهى: «تتشرف السيدة أم كلثوم بدعوة سيادتكم لحضور الحفل الذى تقيمه لصالح المجهود الحربى بمركز الشباب بدمنهور»، وقبل أن يبدأ الحفل وقف فنان تشكيلى من الإسكندرية ورسم صورة كبيرة للسيدة أم كلثوم وأعلن فى مدخل مركز شباب دمنهور أنه سيبيعها فى المزاد العلنى ليضاف ثمن اللوحة إلى حصيلة الحفل المخصصة لدعم المجهود الحربى، فأقبل عليه أحد تجار محافظة البحيرة، وأعلن أن صور أم كلثوم أغلى من أن تباع، ودفع ثمنها على الفور مئتين وخمسين جنيها أضيفت فى نهاية الليلة إلى صافى دخل الحفل.
انفرجت الستارة ووقفت أم كلثوم تحيى جمهورها، فماذا حدث منها ومن جمهورها بعد غياب منذ آخر حفلاتها بسينما قصر النيل يوم 1 يونيو 1967؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة