تبدو "الاستدامة" كلمة السر فيما يتعلق بالرؤى التي تتبناها الدولة المصرية في الداخل والخارج، وهو ما يبدو في اعتمادها في إطار المسار التنموي في الداخل، أو حتى في علاقاتها الدبلوماسية، عبر تصدير تجربتها التنموية، لمحيطها الإقليمي، جنبا إلى جنب مع الدفاع عن حقوق دوله في مختلف المحافل الدولية، في ظل ما تحظى به من تأثير، لا يقتصر على مناطقها الجغرافية، وإنما بات ممتدا إلى العديد من المناطق الأخرى من العالم، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، وأبرزها خلال قمة المناخ التي عقدت في نوفمبر من العام الماضي، أو خلال قمة "من أجل ميثاق مالي عالمي جديد"، والتي عقدت في العاصمة الفرنسية باريس مؤخرا أو غير ذلك من الفعاليات.
إلا أن نهج "الاستدامة" بات بمثابة السبيل، من وجهة النظر المصرية، في التعامل مع الصراعات المحيطة بها عبر التركيز على العديد من الجوانب، التي لا تقتصر في جوهرها على مجرد تقديم حلول "مؤقتة"، وإنما تمتد إلى ما يشبه عملية "بناء"، تعتمد على الحوار، على أكثر من مسار، منها ما هو على المستوى الإقليمي الجمعي، ومنها على مستوى بيني محدود، على غرار مبادرة "جوار السودان"، ومنها ما هو داخلي في الدول مراكز الصراع، وهو ما يهدف في الأساس إلى تهيئة البيئة المحيطة بالأزمة، والعمل على تشجيع أطراف الصراع على اختيار نهج الحوار، جنبا إلى جنب مع تقويض محاولات التدخل الخارجي، ومنع القوى الإقليمية من التدخل، أو بالأحرى الانحياز، لطرف دون الأخر، مما يضفى المزيد من الزخم على العملية التفاوضية، بحيث لا تحظى أطراف بعينها على ميزة الاستقواء بالخارج، في مواجهة الأطراف الأخرى.
ولعل الملفت في الرؤية المصرية أنها تبدو عملية طويلة نسبيا، حيث أنها لا تقتصر على مجرد التعامل مع البقعة الجغرافية التي يقع فيها الصراع، كما أسلفنا، وإنما تمتد إلى رقعة أوسع، تتمثل في الإقليم برمته، في ظل ارتباط مفهوم "الاستدامة" بالعديد من الأبعاد، لا تمثل فيها عملية "احتواء" الصراع، سوى مجرد عنصر واحد منها، في ضوء العديد من المعطيات، أهمها حالة التشابك بين مصالح القوى الإقليمية، من جانب، وأطراف الصراعات من جانب أخر، وهو ما يبدو بوضوح إبان "الربيع العربي"، والتي تحولت ثوراته إلى صراعات أهلية تحمل في طياتها حروبا بالوكالة بين القوى المتناحرة.
وهنا كان "رأب الصدع" الإقليمي، بصورته الجمعية، في نطاق منطقة الشرق الأوسط، بمثابة أولوية مهمة، سواء بالنسبة لمصر أو القوى الأخرى، من أجل الوصول إلى صيغة توافقية في العلاقة فيما بينها، تعتمد العمل المشترك مع التركيز على المصالح المشتركة، لتتوارى خلفها الخلافات، فتتحول حالة الصراع إلى إطار تنافسي أقل حدة، يبدو طبيعيا في العلاقات الدولية في صورتها التقليدية، مما يساهم بصورة كبيرة في تحقيق الاستقرار الأهلي في الدول التي تعاني من الاعتراك الداخلي، وهو ما بدا في النموذج السوري، على سبيل المثال، حيث حظت دمشق بحالة قبول عربي وإقليمي، في أعقاب التوافق السعودي – الإيراني، والتقارب بين مصر وتركيا، وهو ما يمثل أحد أبرز المراحل، التي تعتمد تهيئة البيئة الإقليمية لاحتواء الصراعات، سواء على المستوى البينى أو الأهلي.
بينما يبقى تهيئة البيئة داخل الدولة أو الدول (مركز الصراع) بعدا ثانيا، من مراحل بناء الاستقرار، بحسب الرؤية المصرية، عبر تشجيع الأطراف المتصارعة على الحوار، وهو ما يبدو في أحدث حلقاته في "اجتماع العلمين"، والذي احتشدت فيه الفصائل الفلسطينية، على أرض مصرية، في خطوة تبدو مهمة نحو تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام الذي طال أمده، وهو ما يمكن أن يتحقق بدعم من القوى الإقليمية الرئيسية التي خففت، بناء على الخطوة الأولى، من حدة استقطابها لأطراف الصراع، من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب، وهي الحالة التي طغت على الأزمة في النموذج الفلسطيني "الداخلي"، منذ بداية الانقسام في عام 2007.
البعد الثالث من أبعاد عملية بناء الاستقرار الإقليمي في إطار "الاستدامة"، يتجسد في البعد الاقتصادي، عبر دعم الدول على تحقيق التنمية، فتتحول من مجرد أحد أهم أسس الاستقرار في الداخل، على اعتبار أن الأوضاع الاقتصادية المتردية تعد المدخل الرئيسي لإثارة نزعات الفوضى، إلى أداة مقاومة، كما هو الحال في القضية الفلسطينية، والتي شهدت حراكا عربيا نحو دعم العملية التنموية بدءً من مدينة القدس، والتي قد تمتد إلى كافة المناطق الفلسطينية الأخرى، عبر تأسيس آلية تمويل لدعم مشاريع المواطنين وبالتالي تعزيز صمودهم في مواجهة محاولات تهجيرهم من المدينة المقدسة.
وهنا يمكننا القول بأن بناء الاستقرار الإقليمي في إطار "الاستدامة"، في رؤية الدولة المصرية، تبدو عملية متكاملة، تشمل جانبا إقليميا، يتعامل مع المنطقة وتفاعلاتها وإشكالياتها بصورة شاملة، يعتمد في الأساس تهدئة الصراعات بين القوى الرئيسية، وأخر داخلي، عبر تهيئة الأوضاع في الداخل وتوجيه بوصلتها نحو الحوار، في حيث يبقى المسار الاقتصادي أحد أهم أدوات الاستقرار في الدول، والتي يمكن تعميمها على الإقليم بأسره.