انضمام مصر إلى «بريكس» - أو تجمع الاقتصادات الناشئة - يأتى كجزء من سياسة مصرية تدفع نحو بناء أنظمة عالمية متوازنة تسمح بالتنمية والتعاون وتقل من الاختلالات، وبالتالى فإن الانضمام نتاج لسياسة خارجية تسعى للتعاون وتقوية نظام اقتصادى أقل تحكما وتدخلا، وبالتالى فإن النظر إلى القمة 15 لـ«بريكس» وإعلان ضم عدة دول ناشئة، هو ناتج تفاعلات تجرى على مدار عقود، وتتزايد خلال السنوات الماضية بعد تحولات تجتاح العالم، وتدعم السعى لبناء توازنات ربما لا تنهى النظام القائم، لكن تخلق مسارات وبدائل موازية، تخفف من تأثيراته على مصائر الشعوب.
وفى كل وقت - على مدار قرن وأكثر - كان هناك نظام عالمى مختل، وغير ملائم لكل دول العالم، وفى كل وقت كانت هناك مساع لمواجهة هذا الاختلال، بعد الحرب العالمية الأولى تشكلت عصبة الأمم التى فشلت فى منع الحرب العالمية الثانية، وتم تشكيل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبقيت المؤسسات الاقتصادية الكبرى بروح استعمارية، فى مطلع الخمسينيات عندما شهد العالم فى أعقاب الحرب العالمية الثانية استقلال جزء كبير من المستعمرات فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وصارت دولا مستقلة تجمعها قواسم مشتركة، تتجلى فى معارضة سياسة الارتباط بأى من المعسكرين الشرقى أو الغربى، والسعى لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنهاء السيطرة الأجنبية بكل أشكالها.
ومع بعض الاختلافات فإن الأجواء الحالية بالعالم - أثناء وقبل حرب اوكرانيا - تُذكر إلى حد بعيد بما كان عليه الحال فى ذروة الحرب الباردة، والاستقطاب بين المعسكرين السوفيتى والأمريكى، وحلفى وارسو والناتو، وهى الأجواء التى قادت حينها الدول، التى رفضت الانحياز لأى من المعسكرين السوفيتى والأمريكى، وسعت لتشكيل «حركة عدم الانحياز»، عقد المؤتمر فى مدينة باندونج، بإندونيسيا، إبريل عام 1955، بهدف التعاون الاقتصادى والثقافى الأفروآسيوى، ومعارضة الاستعمار بمختلف صوره بما فيها الاستعمار الجديد، وشارك فى المؤتمر رؤساء دول وحكومات 29 دولة أفريقية وآسيوية، من أبرزهم مصر جمال عبدالناصر، والهند جواهر لال نهرو، وإندونيسيا أحمد سوكارنو، ويوجوسلافيا جوزيف بروس تيتو، واتسعت الحركة لتشمل ما يقرب من نصف دول العالم، ونجحت فى أن تواجه الاستقطاب، وخلال نصف قرن وصل عدد الأعضاء المنظمين للحركة إلى أكثر من 116 دولة، ولعبت الحركة دورا فى فرض أصوات الدول المستقلة ودعم دول أخرى للحصول على الاستقلال.
ومع اختلاف الظروف، فإن ما يجرى الآن من إعادة تشكيل للعالم بما يتناسب مع الموازين النسبية للدول، مع القدرة على بناء تجمعات قابلة للتوسع، وإنتاج تعاون يخفف من ضغط ازدواجية النظام العالمى، يجعل تجمع «بريكس» ضرورة تفرضها التطورات والتحولات فى السياسة والاقتصاد، وبالتالى فالتجمع ليس نبتا مفاجئا، لكنه نتاج تفاعلات متعددة، بأشكال جديدة.
وعلى مدار سنوات تنطلق الدولة المصرية ـ التى كانت دوما ضمن تحركات الاستقلال ـ فى بناء سياستها الخارجية من مصالحها ومصالح شركائها القاريين والدوليين، وتوزيع العوائد والفرص، وطرح مبادرات للتعاون فى مواجهة التداعيات المختلفة للتحولات الدولية على الاقتصاد، وتسعى مصر والرئيس عبدالفتاح السيسى إلى بناء علاقاتها مع مراكز النمو الاقتصادى والتجارب الناشئة والمتقدمة فى الاقتصاد، بما يضمن فرصا عادلة متكافئة لكل الأطراف، وأيضا تبادل الخبرات والفرص بالشكل الذى يمكن كل الأطراف من تحقيق أهدافها فى التنمية والتقدم.
وعلى مدار سنوات، سعت مصر وشاركت فى كل الفعاليات الاقتصادية بجانب سعيها لتوسيع التعاون والشراكة مع كل نقاط التطور الاقتصادى، وتطورت علاقاتها مع الصين وأوروبا والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل، ومع التجمعات الإقليمية والاقتصادية الأفريقية، وفى كل مناسبة تؤكد مصر دعوتها لوجود نظام عالمى متوازن يسمح بدرجة من التوازن، بعيدا عن اختلالات تضاعف من مشكلات الدول الناشئة، وفى كلمته أمام «قمة ميثاق التمويل العالمى الجديد»- والتى عقدت فى العاصمة الفرنسية باريس يونيو الماضى - تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى باسم أفريقيا ودول العالم الثالث وأكد «أن الواقع الجديد الذى نعيشه يفرض على الجميع التكاتف لتعزيز النظام متعدد الأطراف، ليصبح أكثر استجابة لاحتياجات الدول النامية، وأكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات»، كما أشار السيسى إلى أن النظام المالى العالمى شهد تطورات كبيرة، وأن أزمتى كورونا وأوكرانيا أثرتا سلبا على عدة مسارات، ودعا إلى اتخاذ قرارات سريعة تحول دون أزمة ديون كبرى، وتطوير سياسات بنوك التنمية لتعظيم قدراتها، واستحداث آليات شاملة ومستدامة لمعالجة ديون الدول المنخفضة ومتوسطة الدخل، فضلا عن التوسع فى مبادلة الديون، وأهمية تطوير سياسات وممارسات بنوك التنمية متعددة الأطراف، لتعظيم قدرتها على الإقراض، وتيسير نفاذ الدول النامية، وتعزيز الحوار بينها وبين وكالات التصنيف الانتمائى، لزيادة قدرتها على الإقراض دون المساس بتصنيفها، علما بأن المجتمع الدولى توافق خلال قمة شرم الشيخ على المطالبة بالكثير من تلك الإصلاحات.
ربما لا يكون الهدف هو هزيمة الهيمنة بالقاضية، لكن السير بطريق التوحد والتعاون لموازنة نظام اقتصادى فردى لا يراعى مصالح الدول والتجمعات الناشئة، ومن هنا فإن «بريكس» موجّه لصالح دولِهِ أولا، ومواجهة تداعيات النظام العالمى ثانيا، وهو ما يجعل هناك تشابهات بين «بريكس» و حركة «عدم الانحياز».