حازم حسين

محارق المصاحف ومَقاتِل المهاجرين.. جنون القوميّات يخنق أوروبا والحرية معًا

الخميس، 03 أغسطس 2023 02:34 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تمدّن البشر، وما زال شىء من البدائية كامنًا تحت جلودهم، قد تستثيره حَكَّة أو بعوضة عابرة. عندما بحث الأسلاف الأوائل عن حاضنةٍ تستوعب مخاوفهم؛ كان الاجتماع سبيلهم لهزيمة الوّحشة وترويض الوحشية، وعندما تغلَّبوا على الفراغ تطلَّعوا لما أبعد؛ فكان الدين سبيلهم للتوازن على حبلٍ مشدود بين الحياة والموت. إنّ العقيدة لغةٌ جامعة كبقيّة اللغات، وكما أنه لا سبيل للتعايش دون اتصال بألسنة الآخرين، فلا تمام للإيمان إلا باستيعاب عقائدهم. ينشأ الخلل إذا تحوَّلت اللغة من التواصل إلى الصراع، أو حوَّلنا الدين من جسر محبّة لمزرعة كراهية وشِّقاق. وهذا ما يحدث حاليًا للأسف تحت سطوة اليمين، فى بيئات يُفترَض أنها عبرت الاختبار، وابتكرت وصفتها الناضجة لعلاج الحساسية التى قد تخدش الجِلد؛ فتُجدِّد البدائية التى تصوُّروا، أو ادَّعوا، أنها اندثرت.
 
موجةٌ من حَرق المصاحف تتمدَّد فى أوروبا، ودهشةٌ مثل صدمة التجارب الأولى بين ملايين المسلمين؛ كأننا إزاء حدث طارئ أو خروج عن ثوابت مُستقرّة. الحقيقة أن الكراهية بضاعةٌ رائجة فى الشمال، يُحاصرها القانون حينًا وتنفجر أحيانًا؛ لكنها ليست انحرافًا عفويًّا أو خللاً جينيًّا أصاب جسدًا مُعافى. لن تكون العودة إلى امبريالية قديمة تلفَّحت بالدّين من قَبيل التزيد، ولا النظر فى أطروحة هنتنجتون عن «صدام الحضارات» قبل ثلاثة عقود مجرَّد رياضة ذهنية لتقطيع الوقت. هناك التباسٌ قديم فى علاقة أوروبا بالدين، وبعدما تحرّرت من سطوة الكنيسة ظلّ قائمًا، إن بالحياد الذى لا يتحقَّق عمليًّا، أو بالانتقائية التى تُدمَغ بها العلمانية قهرًا، أو بالتقصير فى إنضاج أساس نظرى ورؤية تطبيقية لفكرة الحرية، لا ترتعب من تاريخ التسلُّط «السياسى الدينى» الموروث، ولا تُشجِّع على أكل ضِعافها خوفًا من سطوة القومية المُفرطة فى الغِلظة والاستعلاء.
 
العُقدة مُركَّبة لحدِّ الاستعصاء. تجاوزت أوروبا مسألة الدين، وتطرَّفت فى ذلك بحثًا عمّا توهّمت أنه «حياد كامل». الآن لا غضاضة لديها فى أن يُحرَق الإنجيل الذى يُقدّسه أغلب مواطنيها، وبالمنطق ذاته يقبلون حرق القرآن. نظريًّا قد لا يكون الإسلام مطرودًا وحده من اهتمام القانون وحمايته؛ لكن عمليًّا لا يمكن فصل الحادث مع المصاحف عمّا يجرى فى سياسات الهجرة واللجوء، وعن التمييز فى العمل والسكن والمزايا الاجتماعية. إذا جمعنا ما يواجهه المسلمون فى فضاءاتهم يوميًّا، مع ما يقع على مُعتقداتهم وكتابهم بين وقت وآخر؛ فقد تهتزّ نظرية الحياد التى تتعلَّل بها حكومات عدّة، وتبرز أسئلة منطقية عن العدالة والقانون، وفاعلية الدولة فى حماية الأقليات، وتحصين بقائهم المُهدَّد، بمزيد من الإسناد وبرامج الحماية والدعم، وبقدر من التمييز الإيجابى طالما بقيت الموازين مُختلّة. إن العنف الواقع على المسلمين يقتضى تدخُّلاً فوق طبيعى. يصدق ذلك على التعليم والتشغيل وإعادة التوزيع خارج الهوامش الفقيرة، كما يصدق على ردع الكراهية وعداء القوميّين الذى يلاحقهم فى الحياة والمُعتقد.
 
ما جرى فى السويد والدنمارك عدّة مرات طوال أسابيع، ليس أول صدامات أوروبا مع هامشها الاجتماعى. إنّ تدنيس الكتب المُقدَّسة فرز هُويَّاتى وعرقى بالأساس، قبل أن يكون عنفًا دينيًّا أو كراهية للعقيدة. وهو بذلك يُلخّص محنةً نفسيّة يعيشها الأوروبيون مع تركيبة ديموغرافية تتبدَّل حولهم، ومع انحراف أحدثه الساسة لأغراض اقتصادية أو صراعيّة، ولن تُحَلّ الأزمة دون قراءات سوسيولوجية مُحدَّثة لما آل إليه الاجتماع، وما أصبحت عليه موازين القوى بعد عقود من استجلاب المهاجرين، أو استخدام الأُصوليِّين، أو المُراوحة بين ماضٍ مُتعالٍ يستهلك بقايا سرديّة ورساليّة «عبء الرجل الأبيض»، وحاضر يُسدّد فواتير مفتوحة لحساب أعباء هيكلةٍ اجتماعية لم تُواكبها إعادة تحريرٍ للثقافة، أو جهدٌ فى الدَّمج بغرض الانسجام بين مُكوّنات يحمل كل منها ماضيًا يدعو للتنافر والخصام.
 
أوروبا بيئة مفتوحة تمتزج فيها الأديان والأقلّيات، ولواء الرفض يرفعه القوميّون المُتشدّدون. صحيح أن كثيرًا من خطاباتهم تتبنَّى موقفًا عدائيًّا لكل الوافدين؛ إلا أنه يُفصح عن نفسه بضراوة تجاه المُسلمين والعرب. ربما يُرَدّ فى جانب لتاريخ الحروب الصليبية، وتشابكاتٍ خشنة من تجارب الاحتلال بالقرن العشرين؛ ولعلّ الحافز الأكبر ينبنى على تنظيرات «هنتنجتون وفوكوياما» عن صدام الحضارات ونهاية التاريخ. اعتبر الغربيّون أنهم ذروة النضج البشرى، وبعدما خرجوا من حربهم العالمية مُحطَّمين ماديًّا ومعنويًّا، أفاقوا على سقوط أُمثولتهم الحضارية؛ فسعوا لابتكار عدوٍّ يضمن لهم ترميم روحهم المُتهدّمة. هكذا اعتبروا «صراعات الهويّة والثقافات» مُواجهة العالم الكبرى بعد الحرب الباردة، وانتخبت المدنية الغربية «الأصوليّة الإسلامية» عدوًّا. المفارقة أنهم كبشوا النار واحتضنوا الخصم؛ ففتحوا أبوابهم على آخرها للجماعات الراديكالية، ووظّفوها ضد بيئاتها الأصليّة، ووصموا بها طلائع المهاجرين وأبناءهم؛ كأنهم كانوا يخترعون الفزّاعة المأمولة ويُطعمون الوحش الذى سيُطلقونه على منافسيهم الثقافيّين لاحقًا، قبل أن تُفلت اللعبة من يدهم، وتصطدم وحوشهم اليمينية بـ«فرانكنشتاين الأصولى» المصنوع فى حظائرهم.
 
عندما أحرق المهاجر العراقى سلوان موميكا مُصحفًا بـ«ستوكهولم» صبيحة عيد الأضحى، كان يُجدِّد ذكرى الجَمر الكامن تحت الرماد. شهدت أوروبا عشرات من وقائع الكراهية وتدنيس المُقدّسات آخر عقدين: السياسى الهولندى خيرت فيلدرز فى 2009 و2014، وإحراق القس الأمريكى تيرى جونز للمصحف 2010، والرسوم المُسيئة للرسول فى صحف دنماركية وألمانية وفرنسية 2015، وقتل 51 مُصلّيًا فى مسجدى نيوزيلندا 2019، وإساءة ريتشارد يومشوف رئيس لجنة العدالة بالبرلمان السويدى للرسول، وتمزيق زعيم حركة بيجيدا الهولندية المُتطرفة للقرآن، وأخيرًا رُزمة الوقائع المُتلاحقة منذ يناير، وأحدثها نشر حركة بانكسى باتريوتر صورًا لمصحف يحترق، وتجديد «موميكا» ورفيقه سلوان نجم الجريمة أمام برلمان السويد الاثنين الماضى. وأحسب أن الوتيرة لن تهدأ، وغاية ما يُريده صُنّاعها أن ينتج العنف عنفًا مُضادًّا، كما جرى فى اقتحام سفارة السويد بالعراق قبل أيام.
 
غضب المسلمين مُبرَّر ومفهوم، وإدانة الحكومات محمودة وواجبة؛ لكن الحالة تستدعى نظرًا أعمق.. مبدئيًّا، قداسة القرآن فى النصّ لا الكتاب، وهو مُقدَّر ومحفوظ فى الصدور، ولا ينال منه جهل جاهل. المسلمون يعون تمامًا أن فى العالم ملايين لا يُوقّرون كتابهم، وليست لدى أغلبيّتهم رغبة فى أن يحملوا أحدًا على الإيمان. الأوروبيون ربما يعرفون أن إنكارهم للنص لا يختلف فى دلالته عن إحراقه؛ وإذا كان حقُّهم فى جحوده مَصونًا دائمًا؛ فلا معنى لتدنيسه إلا الحطّ من مُعتنقيه. هكذا يُجسّد الموقف ضد العقيدة ومُفرداتها كرهًا للبشر، وهو أمر يقع فى نطاق التجريم، بالمواثيق الدولية أو قوانين بعض الدول. فضلاً على أن الأُمم المُتحضّرة تحترم الكتب، ولا تحرقها مهما كان مُحتواها، ومُرتكز الحداثة فى أفكار «روسو وستيوارت ميل» وغيرهما يضع الحرية على نقطة التوازن بين إرادة الفرد وصالح الجماعة، وبمعنى آخر فإن حُرّيتك الشخصية مُحصَّنة بحرِّيات الآخرين، واختصامهم فيها يفتح الباب لقمعك لاحقًا. القفز على ذلك معناه الانطلاق من نظرة إلغائيّة للآخر، وتلك ضربة هادمة لبنيان المدنيّة الغربية.
 
العلمانية عمياء أمام العقائد، ورهيفة السمع جدًّا لحقوق الأفراد. ما يُمارسه اليمين تصوُّر انتقائى لا يُعبّر عن علمانية قويمة؛ إنّما يتّخذها أداةً لإشعال المجال العام. لا فارق بين استدعاء الدين تبشيرًا أو تنكيلاً. إذا كان مرفوضًا أن تُرفَع المٌقدّسات فى الفضاء الاجتماعى، فليس مقبولاً أيضًا أن تُحرَق فيه. كل من يمارسون التطرُّف، ولو تحت لافتات مدنيّة، إنما يُقوّضون العلمانية ويسلبونها فاعلية ترتيب البيئة المشتركة. المشكلة أن تُستجلَب المدنيّة من براح الخطاب إلى ضيق الإقصاء؛ فتتحوَّل من صيغة تعايشٍ ونُزول عن التمايزات، إلى أداة فرزٍ وتسخين.. هنا قد لا يكون إحراق المصحف فى السويد والدنمارك مُختلفًا عن قتل المُراهق المسلم نائل المرزوقى فى فرنسا. ظاهر الصورة موقفٌ ضد الدِّين، وجوهرها العنصرية وكراهية المُختلفين.
 
عالجت أوروبا اختلالاتها الديموغرافية بالمهاجرين، وفتحت أبوابها للأصوليِّين مُبكّرًا؛ فاختلط العامل بالعاطل، والليِّن بالمُتشدّد. نشط الإخوان منذ الخمسينيات، وفى السويد أسَّسوا حضورهم أواخر السبعينيات، والآن لديهم مكانة مُهيمنة يحتكرون بها تمثيل المُسلمين أمام الدولة؛ فيعملون تحت إشراف اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا، ويُهيمنون على مسجدى ستوكهولم وجوتنبرج، ويملكون مُؤسَّسات: الرابطة الإسلامية، والمجلس الإسلامى، ومُنظّمة الإغاثة، وجمعية ابن رشد، ورابطة الشباب المسلم، والمدارس الإسلامية، والتجمعات الإسلامية المُوحّدة، وينتشرون فى عدَّة أحزاب ويحتكرون غيرها: حزبا نيناس وجاسين نموذجًا، ولا تختلف الصورة فى بقيّة القارة.. فُسحَة الحركة ودوائر المصالح الإخوانية، مقابل تمدُّد خطابات اليمين المُعادية، يُشيران إلى تناقضٍ غريب بين مواقف الشارع والحكومات. كأنّنا إزاء لعبة توزيع أدوار، وندور فى حلقةٍ مفرغة: ينمو الأُصوليّون فيستفزون اليمين، ويهتاج القوميون فيُعزّزون ترابط الإسلاميين ومكاسبهم، ويلعب السياسيون بالطرفين؛ لترتيب البيت أو إزعاج خصوم الشرق والغرب.. قد يبدو التفسير مُغرقًا فى المؤامرة، لكنه واقع الحال الذى يستعصى على المنطق.
 
عقب موجة العداء الأخيرة، دعا السويدى ذو الأصول التركية، ميكيل يوكسل، إلى المقاطعة الاقتصادية، والمفارقة أن بيان الأزهر سار بالوجهة نفسها. العودة فى الزمن تكشف أننا جرَّبنا سلاح التجارة ولم يُثمر، وليس مأمولاً أن يكون فعّالاً اليوم وسط سياق عالمى مأزوم، ومن ثمّ فاللجوء إليه قد لا يُنتج إلّا تعميق الخلاف، ورفع منسوب التطرُّف فى صدور القوميِّين، باعتبارها معركةً بين أوروبا والإسلام.. المُؤكَّد أن الأزهر حَسِن النيَّة فى دعواه؛ لكن إذا عرفنا أن «يوكسل» مُؤسِّس حزب نيناس الإخوانى، وأحد الفاعلين تنظيميًّا؛ فقد يكتسب تفسير «المنفعة المُتبادَلة» بين الأصوليين والقوميّين مُتَّسعًا من الوجاهة. بقدر ما يستفيد الإخوان من مُمارسات العنصريين، يسعون جاهدين إلى استبقائها، وتلبية طلبها الدائم من وقود الإثارة ومُحفّزات الاشتعال.
 
ليس ضمن مقاصد الرؤية السابقة أن أوروبا بريئة من الكراهية. الواقع أن القارة العجوز أصبحت عجوزًا فعلاً فى مواقفها، ومُتصابيةً فى أفكارها عن أُمورٍ كانت من موضوعات البديهة قديمًا. مثل أن تضع إهانة المصاحف فى حيِّز الحرية، وتستمرئ المُراهقة بمنح مُوافقات على إحراق التوراة؛ كأنها هكذا كفلت تكافؤ الحقوق. الواقع أن تدنيس التوراة مُشينٌ كتدنيس المصحف، وأن المُتورِّطين فى الأمرين أبعد ما يكونون عن الحرية، ويرتكبون جريمة كراهية صريحة لا تقبل التأويل؛ وتظل المشكلة أبعد من لافتة هجومية أو مشهد استعراضى بالشارع؛ إذ الأزمة فى رؤية الدولة لنفسها، وفى سلطتها على المجال العام، وعلاقتها بمجموع أفرادها. فى سياسات هجرة ولجوء مَعيبة، وبرامج تأهيل وإدماجٍ منقوصة، وتعايش على حرفٍ من التداعى بفعل التمييز وغياب العدالة والفُرص. الأزمة فى البحث الدائم عن عداواتٍ تُحصِّن الجبهة الداخلية وتَجبُر هشاشتها، وفى العلمانية المُنحازةِ إلى اللون واللكنة وميراث الاستعلاء الأبيض.
 
يتقدَّم اليمين الأوروبى. يحكم إيطاليا ويُوشك فى إسبانيا، ويزدهر بالسويد والنمسا وفنلندا واليونان، وتسبَّبت مارين لوبان فى إزعاج ماكرون، والقائمة تتوالى. لم نرَ ديماجوجية قومية فى واجهة الحكم حتى الآن؛ لكنه سيحدث يومًا. أما مُقدّمات الكراهية فتحقَّقت بوفرة: مواسم الحجاب والبوركينى المُتجدِّدة، واستفتاء سويسرا لكَبت المآذن، والإسلاموفوبيا التى باتت طقسًا مُقيمًا. يُراد تمرير كل ذلك تحت سقف الحرية، بينما ينتفض وزير داخلية فرنسا ضد كتاب للمُراهقين، ويستدعى قانونًا من الموت الإكلينيكى لمُصادرته. هناك حُمَّى مُفرطة فى صراع الهُويَّات، ونبذٌ واضح للتعدُّد يختصم الليبرالية بأدواتها. كأن أوروبا باتت تكره وجهها الحداثى وتحنُّ لتاريخها القديم، ولديها من هزائم الحاضر، وعُقَد الوعى، ورواسب التاريخ، ما يكفى لدفع العربة الضخمة نحو المُنحدَر.
 
أعلنت وكالة الهجرة السويدية مُراجعة تصريح إقامة سلوان موميكا، وتلك شعبوية وليست حلاًّ؛ لأنه ما أقدم على فعلته إلا بأثر الموجة القومية المُتطرِّفة من حوله. خارجية ستوكهولم أعلنت دراسة قانون لحظر إهانة المُقدّسات، وتبعتها الدنمارك؛ لكنهما علّقتاه على «عدم المساس بحرية التعبير وفق الدستور»، بينما لا يبدو من تكرار التجارب وتعقُّدها أن لديهما تعريفًا ناضجًا للحرية، يحترم الفردية ولا يهين المواطنة وقِيَم المدنية. الخطورة أن يستجيب مُتطرّفو الضفّة المُقابلة لموجة الجنون اليمينى؛ فتعلو الشعبوية وتتكرَّر جرائم مثل مهاجمة «شارلى إبدو»، أو اغتيال المخرج الهولندى ثيو فان جوخ، أو طعن سلمان رشدى فى نيويورك. كل تلك الحوادث إرهابٌ غير مُبرَّر؛ بالضبط كما أن إحراق المصاحف أو قتل المهاجرين إرهابٌ غير مُبرَّر أيضًا.
 
وسط تنامى النزعة القوميّة، وارتباك النُخب الطليعية بين مناورات القيمة والمصلحة، يبدو مأزق القارة ثقافيًّا ونفسيًّا قبل كل شىء. أدان البعض محرقة المصاحف وتلكَّأت الأغلبية، كما ثارت أقلّيَّة على قتل المراهق الفرنسى وصمت الباقون. إنَّ أوروبا التى تجيد الانتهازية منذ غلَّفت أطماعها براية الصليب قبل ألف سنة، ما تزال تُدمن اللعبة القديمة؛ لذا قد لا تتوقَّف محارق المُقدّسات ولا مَقاتِل المهاجرين، وقد لا تُرمِّم الحكومات شقوق الجدار؛ بعدما استشعرت جاذبية الشعبوية وأثرها على الصناديق. مات «هنتنجتون» وبدَّلت أمريكا حربها من الإسلام لشرق آسيا، مرحليًّا على الأقل، ولا تزال القارة البيضاء تُذاكر «صدام الحضارات» بيقين البُلهاء. إنّ أوروبا فى حاجةٍ ماسَّة لإعادة اختراع نفسها فى نطاق الفلسفة والرسالة؛ إذ لم تعد قادرةً على صيانة مدنيَّتها، وقد تهتَّك الجِلدُ الناعم وبدت من تحته البدائيَّةُ التى كانت كامنة، وفى أحطّ الصور وأشدّها جلافة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة