أن يتبدل شعور الإنسان، بهذه القوة، إلى النقيض، أن تكون أمنية حياتك ألّا ترى، ما كنت شغوف به ذات يوم، وأنه إن مر يوم دون أن تراه، أو تطالعه فى خيالك مئات المرات، تراه وتستعيد المواقف، التى جمعتك به، وتتمعن فى سرده على خاطرك. كيف أصبحت الآن لا تطيقه؟ ولا تريد أن تستعيد ذكراه، وتتمنى أن ينطمس من ذاكرتك، شيء مخيف، فى أى شيء إذن نثق، إذا كانت مشاعرنا بهذا التحول، أين ذهب الإيمان الشديد، بما كنت تراه، وتعتقد فيه، أين رحلت هذه الثقة الواسعة؟ فيما كنت تؤمن به، ما الذى تغير فيك؟ وما الذى تحول فى أعماقك؟ حتى تتبخر كل هاتيك المشاعر وتزول، وكأن شيء لم يكن، تبحث عن الخلل، فلا تجد شيء طرأ، إنها الأيام فقط، مرت علينا، كنا أقرب ما يكون، حتى صرنا الآن أبعد ما يكون، أفر منها كما تفر مني، وتتعاطى التجاهل والنسيان، كما أتعاطاه.
أليس غريبا علينا، أن نصير كما لو كنا مجبرين على المسير، حتى فيما نملك من مشاعر، نحن لسنا على يقين تام من شيء، وأن ما تحبه، وتهواه الآن، قد يأتى يوما ويكون أبغض شيء لديك، تُعلمنا الأيام، أننا لسنا فى حل من كل شيء، وأن أراداتنا قد نُخدع فيها، وقد تُضللنا نفوسنا سنوات، ونحن لا ندرى عن ذلك شيء، وأن كل ما جنيناه، أنما كان عبثا وضلال، وأننا أرَّقنا أنفسنا فيما لا طائل منه، وكنا نظن حينذاك، أن كل شيء على ما يرام، وأنه اليقين، الذى لا شك فيه، وكنا نحارب من أجله، ونخاصم من أجله، ونعقد المعاهدات، التى تربطنا به، ونجدد العهود والعقود، ونوقع عليها بالدم والروح، وما نملك من شيء، هل كان غيرنا ما يوقع، ما يعيش هذه اللحظات والسنوات، أربكتنا مشاعرنا، التى تتخبط بين الإقدام والإحجام، بين الإقبال والنفور، بين الحب العميق، والكره العميق، بين طريقين لا يلتقيان، ولا ينبغى لإنسان أن يسلك الطريقين معا، فهما من النتاقض، بحيث يستحيل أن يتقابلا ولو مصادفة، فى صحراء شاسعة الأطراف.
ها أنا الآن تقع قدمي، على ما لم تتخيل، أن تطأه يوما، هل أنا أنا؟ أم أن أنا سوايا، لا يعرفني، وأدهشنى أنى قابلت إنسان غريب عني، بداخلى لم أعرفه، ولم أنتبه إليه، أشك فى أننى أعرفني، وأن من الممكن أن يكون بداخلى أخرون غيري، لم أتعرف عليهم، ولم أقابلهم، هل يا ترى سوف أجد غيري، أم سأستقر إلى هذا الجديد بداخلي، وهو نهاية المطاف، ما يؤلمني، أننى لا أستطيع الآن أن أثق بما أرى، أو أسمع، ينتابنى الشك فى أن كل شيء من المحتمل، أن يتغير أو يتبدل، وما أدرانى أننى فى الغد ألا أتراجع عما كنت آمل فيه، إن الأمس انهار على مقصلة اليوم، وجائز أن يموت اليوم على مقصلة الغد، فيصير كل شيء، يقابلنا بلا هوية، يتبدل ويتغير، ونحن معه أينما كان، وإيماننا به أيضا يتغير ويتبدل، ويصير بأشكال متعددة، لا شكل له، ولا طعم، إنما هى بنت يومها، الذى ستنتهى شئنا هذا أم أبينا، وأن رؤيتك التى تعتز بها ولها، وتتشبث بها، قد يكون واهما عظيما، تتمسك به، إنك تبحث عن شيء، قد يبدو غدا لا شيء، إن إيمانك ضرير، لا يبصر الحق السرمدي، الحق الخالد، أيكون وهما، ما أظن حقيقة، سراب خادع للنفوس والأرواح.
عشت سنوات، أتقلب كما تتقلب الأشياء من حولي، فلماذا أريد أن أقف على ثبات، دون أن أتغير أنا أيضا، كيف تطلب من الحياة الوقوف؟ إنها لن تقف، وطالما تتغير، فلن يكون هناك سوى وقفة واحدة، هى أن تموت، فما معنى الحياة، إلا أنها حياة، وأنها لا تتوقف، دائما تسير وتمضى لن يوقف مسيرها أحد من البشر، لأنهم جزء منها، الكون يتحرك من حولنا ونحن نتحرك معه، وندور فى فلكه، كما تدور الطبيعة من حولنا، كُتلة لا تعرف الهدوء والثبات، فإذا كان معنى الثبات الموت، ونحن نخشى الموت، ففى عمرك القصير تلك اللحظات بعمر الكون، لا بد أن لا تتوقف، فما معنى الثبات الذى تطلبه فى ذاتك، أو نفسك إلا إلغاء أو موت على قيد الحياة، وحياة يسكنها الموت، ويتربع على عرش الحرمان، وتقوده إلى مملكة الضياع، ليصير هناك رمة تفوح منها رائحة الشقاء الأبدى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة