لم تكن حرب البسوس، التي دارت رحاها على أرض العرب لنحو أربعين عاماً، كما تذكر أخبار التاريخ والأدب الجاهلي، مجرد صراع دب فجأة بعد مقتل "ناقة"، ترعى في أرض ليست لأصحابها، لكنها كانت صراع محموم لما أنتجته الضغائن والأحقاد بين قبائل العرب في ذلك التوقيت، وما تبعه من صراع على الزعامة، الذي تطور وتحول إلى جور وظلم، حرك معه الكثير من الأطماع وقاد هذه المنطقة إلى اقتتال عنيف راح ضحيته الآلاف من قبائل بكر وتغلب.
مع كل التقدير والوجاهة لفكرة قدسية الناقة في المجتمع العربي، خاصة في العصر الجاهلي وما تبعه في صدر الإسلام، ثم آيات القرآن الكريم، التي تحدثت باستفاضة عن ناقة صالح المقدسة بوصفها "ناقة الله" في سورة الشمس، وكيف قتلها قوم ثمود، الذين كانوا يسكنون منطقة الحجاز، لكن حرب البسوس في قراءة مختلفة لم تندلع بمجرد مقتل "سراب" ناقة البسوس سعاد بنت منقذ، بل كما ذكرت سلفاً أن الأحقاد والصراع المكتوم بين كليب بن ربيعة وابن عمه جساس بن مرة، حرك الأمور على هذا النحو، لدرجة جعلت " كليب" الذي كان ملكاً للعرب في ذلك الوقت يتربص لناقة وحيدة، وسط مئات النوق التي يمتلكها، ويترصدها ويطلق سهمه نحوها ليقتلها، ثم لم يكتف بذلك، بل أنكر على أبناء عمومته تركهم للناقة ترعى في أراضيه، ليتطور الخلاف ويخرجهم من أرضه ويمنعهم الماء، كلما وجدوا بئرا أو نبعاً عذباً.
ارتحلت قبيلة "بكر" تبحث عن الماء، حتى بلغت نبعاً يسمى شبيثاً، وهذه الأماكن كان يسكنها عرب الشمال، الذين يعيشون في الحجاز ونجد، وما إن هموا ليضعوا رحالهم ويرضوا عطشهم حتى كان كليباً ورجاله خلفهم يمنعهم الماء، فارتحلوا جبراً، حتى وصلوا إلى بئر يمسى "الأحص"، فمنعهم كليب منه أيضاً، وجعلهم يهيمون في الصحاري الشاسعة، حتى كاد العطش يقتلهم، فوصلوا وهم يلهثون إلى منطقة تسمى "الذنائب"، ووضعوا رحالهم وشربوا، فجاءهم "كليب" متأخراً، وقد كان جساس ومن حوله من إخوانه في "بكر" قد طفح كيلهم ، وفاضت نفوسهم من الصراع المكتوم والظلم الفاحش الذي تعرضوا له، وبدأ جساس في عتاب ساخن مع ابن عمه وزوج شقيقته، وذكر أمر ناقة خالته "سعاد بنت منقذ"، وما تبع ذلك من تجبر وظلم، حتى كاد أن يقتلهم عطشاً، فما كان من جساس إلا أن أجهز عليه وسدد حربته، وسقط ملك العرب أرضاً، والكل في ذهول وخوف، لدرجة أنه طلب شربة ماء من "جساس" فرفض وقال عبارته الشهيرة "لقد جاوزت شبيثاً والأحص وماءهما"، وكرر الطلب على عمرو بن الحارث، فلم يجبه، بل نزع سيفه وطعنه حتى الموت.
ثارت العرب عندما علمت بمقتل "كليب"، وفر جساس إلى الصحاري يختبئ من مصير مُهلك، وأرسلت قبيلة "تغلب" رجالا إلى أبناء عمومتهم في بكر للتفاوض مع "مرة بن ذهل الشيباني"، والد جساس، فقالوا له كما جاء الحديث نصاً في كتاب العقد الفريد، وكتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام : «إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناب من الإبل، فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، ونحن نعرض عليكم خلالا أربع لكم فيها مخرج، ولنا مقنع».. فقال: «وما هي؟» .. فقالوا: «تحيي لنا كليبا، أو تدفع إلينا جساسا قاتله فنقتله به، أو هماما فإنه كفء له، أو تمكننا من نفسك فإن فيك وفاء من دمه؟».. فقال لهم: «أما إحيائي كليبا فهذا ما لا يكون؟ وأما جساس فإنه غلام طعن طعنة على عجل، ثم ركب فرسه فلا أدري أي البلاد أحتوى عليه؛ وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة، كلهم فرسان قومهم، فلن يسلموه لي فأدفعه إليكم يقتل بجريرة غيره، وأما أنا فهل هو إلا أن تجول الخيل جولة غدا فأكون أول قتيل بينها، فما أتعجل من الموت؟ ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداهما، فهؤلاء بني الباقون فعلقوا في عنق أيهم شئتم فانطلقوا به إلى رحالكم فاذبحوه ذبح الجزور، وإلا فألف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلا من بني وائل» فغضبوا منه وقالوا: «لقد أسأت، ترذل لنا ولدك، وتسومنا اللبن من دم كليب».
وجاء الخبر إلى عدى بن ربيعة، أو "الزير سالم" كما تذكره أخبار العرب، الذي اعتزل الناس بعدها لفترة وانقطع لشرب الخمر، حتى هب لثأر أخيه، وقاد حرباً شعواء على قبائل بكر، وقد انتصر في أكثر من 8 معارك متتالية، وألحق خسائر كبيرة في صفوفهم، حتى صار أحد أساطير العرب، ومضرباً للأمثال في الإقدام والشجاعة، لدرجة تحول معها إلى قاتل مجنون أفنى قومه في حرب باتت بلا هدف بعدما قتل سادتها، جساس وهمام وأبيهم مرة، وآلاف الفرسان.
مازالت العرب تساند الزير سالم، وتقتل أبناء بكر ثأراً لكليب بن ربيعة، حتى جاء الحدث الدرامي الأكبر الذي غيًر المسار وصحح الوضع، وحول دفة الصراع 360 درجة، فلم يكن "الحارث بن عباد"، سيد قبيلة بني ضبيعة، أحد القبائل المنتمية لـ بكر إلا معتزلا للحرب، منذ اندلاعها وصحب قومه بعيداً عنها، وعندما طلب عدي بن ربيعة، فرسته الشهيرة "النعامة" ليشارك بها في حرب البسوس رفض وقال قولته الشهيرة " هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل"، إلا أن ولده الوحيد "بجير" وكان في سن الشباب، خرج لإبل يرعاها، حتى وجده رجال الزير سالم، وقيدوه وأخذوه إليه، وقد جاء الخبر إلى أبيه فقال إن قتلوا بجيراً فنعم القتيل من أصلح بين ابني وائل لتنتهي هذه الحرب، إلا أن رأسه جاءت إلى أبيه، ومعها من يخبره أن ولده قتل بشسع نعل كليب أي "رباط حذائه"، لتتحول هذه القصة إلى ذروتها لتكتب نهاية لهذا الصراع الدموي، الذي استمر لعقود طويلة.
ثار الحارث بن عباد، في مواجهة ظلم الزير سالم، الذي قُتل ولده الوحيد دون ذنب، وأنشد قصيدته الشهيرة، " قربا مربط النعامة مني"، وتوعد "تغلب" بحرب ضروس، فجاء يوم اطلقوا عليه " تحلاق اللمم"، فأمر قومه أن يحلقوا شعرهم، حتى يميزهم عن غيرهم، حتى إذا ما وجدوا من هم دون ذلك قتلوه، وبالفعل كانت معركة فاصلة، ومنيت فيها تغلب بخسائر كبيرة، حتى فر رجالها، وانقسم الجميع حول الزير سالم، الذي فر في الصحاري، دون أن يعرف أحد حقيقة نهايته، التي تعددت فيها الروايات والأقاويل.
الاختلاف الجوهري بين كليب بن ربيعة وأخيه الزير سالم، وبين والحارث بن عباد، هو أن حروب الانتقام والبحث عن الزعامة والسيطرة وإن انتصرت لن تستمر طويلاً، على عكس الحروب التي ينتفض أصحابها لدفع الظلم أو حماية الناس، وحقن الدماء، فقد انتصر الحارث، وأنهى حربه لحقن الدماء وإعلاء لقيمة الصفح والتسامح، رغم أنه كان في موقف القوة ويرفع سيف المنتصر، لكنه نأى بقومه عن الدخول في صراعات ومهالك لم يعد لها داع أو هدف، بعدما تحقق النصر، بينما خسر الزير سالم، رغم التفاف العرب في البداية حوله، إلا أنهم انفضوا بعدما صارت قتلاً لمجرد القتل، وحرباً لمجرد الحرب، فما وجدوا إلا أنهم يلقون بأيدهم إلى التهلكة، وينصارون طاغية جبار، بات مريضاً بالثأر لأخيه، وأسرف في ظلمه وقتله الأبرياء.
حرب البسوس التي دارت رحاها في شبه جزيرة العرب منذ أكثر من 1500 عام، تقدم لنا الكثير من الدروس والعبر، ومن بين أهم هذه الدروس، اعتزال الفتنة حقناً للدماء، كما فعل الحارث بن عباد في بدايتها، والتسامح والعفو عند المقدرة كما فعل في نهايتها، وتقبيح الظلم واضطهاد الناس ومنعهم ما يحتاجون.
أخيراً لم يكن مقتل الناقة إلا جزءً من دراما حرب البسوس، حتى وإن كانت الناقة تشغل كثيراً اهتمام القبائل العربية في ذلك الوقت، لكنها حرب سياسية بامتياز حول القوة والزعامة بين أبناء عرب الشمال، وصراع أبناء العمومة المكتوم لسنوات، رغم أجواء المحبة المزيفة، والود الروتيني المصطنع، الذي سقط كله أمام كلمات قالتها "الجليلة" زوجة كليب، وشقيقة همام وجساس بن مرة، عندما سألها زوجها، أهناك في العرب من هو أشجع مني؟، فقالت أخي جساس، فعلي الرغم من أن هذه العبارة ليست أكثر من مكايدة نسائية، وحديث الدلال في فراش الزوجية، إلا أن كليباً أسرها في نفسه واشتعل غضباً، حتى صارت الأمور إلى ما صارت إليه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة